بيع العربون

بيع العربون

بيع العربون

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أما بعد:

فإن من البيوع المشتهرة بيع العربون، وقد تطرق العلماء إلى الكلام عنه من قديم الزمان، حتى ورد في بعض الأحاديث التي ضعفها العلماء نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – عنه، وقد اختلف العلماء في حل البيع هذا أو حرمته بناء على عدم صحة وتعليلات أخرى، ولكون التعامل قد جرى به كما روي عن بعض الصحابة، فكان في ذلك حجة لمن قال به، وهذا البحث سيكون عن هذا النوع من البيع.

تعريف العربون: 1

العربون بفتح العين والراء قال بعضهم: هو أن يشتري الرجل شيئاً، أو يستأجره، ويعطي بعض الثمن أو الأجرة، ثم يقول: إن تم العقد احتسبناه، وإلا فهو لك، ولا آخذه منك.

والعربون: وزن عصفور، لغة فيه، والعربان بالضم: لغة ثالثة ونونه أصلية.

وقال الأصمعي: العربون أعجمي معرب. ا.ه‍.2

وقد اختلف العلماء – رحمهم الله – في حكم بيع العربون على قولين:

القول الأول: التحريم، وذهب إليه جمهور العلماء، واحتجوا بالأدلة التالية:

1- حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده – رضي الله عنه – قال: نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن بيع العربان.3

2- قوله – صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع) رواه الخمسة، قال الشوكاني: فاشتمل العربون على شرطين فاسدين.

قال في المسوى: قال المحلي: وعدم صحته لاشتماله على شرط الرد والهبة إن لم يرض السلعة.ا.ه‍

3- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ.. (29) سورة النساء.

قال القرطبي في تفسيره (5 / 150): ومن أكل أموال الناس بالباطل بيع العربان فهذا لا يصلح، ولا يجوز عند جماعة فقهاء الأمصار من الحجازيين والعراقيين لأنه من باب بيع القمار، والغرر، والمخاطرة، وأكل المال بالباطل بغير عوض ولا هبة، وذلك باطل بالإجماع. ا.ه‍

4- أن في بيع العربان معنى الميسر، قاله الدهلوي في الحجة، ولعله يرجع إلى ما قبله.

5- أنه بمنزلة الخيار المجهول، فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة كما لو قال: ولي الخيار، متى شئت رددت السلعة ومعها درهم.

وقالوا: ولا يصح أن يكون العربون مستحقاً للبائع كعوض عن انتظاره، وتأخر بيعه، لأنه لو كان عوضاً عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء، ولأن الانتظار بالبيع لا تجوز المعاوضة عنه، ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار كما في الإجارة. (الشرح الكبير 3 / 59).

القول الثاني: الجواز.

وهو مذهب الإمام أحمد، ومحمد بن سيرين، وفعله عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، وعن ابن عمر أنه أجازه، وقال ابن المسيب: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها، ويرد معها شيئاً، قال أحمد: هذا في معناه.

واحتجوا بما يلي:

1- ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (5 / 392)، وعلقه البخاري (الفتح 5 / 91)، ورواه الأثرم في سننه، من طريق ابن عيينة عن عمرو – هو ابن دينار – عن عبد الرحمن بن فروخ: "أن نافع بن عبد الحارث اشترى داراً للسجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر فالبيع له، وإن عمر لم يرض فأربعمائة لصفوان"

وأخرجه أيضاً عبد الرزاق في مصنفه (5 / 147،148)، والبيهقي في سننه (6 / 34)، والأزرقي في أخبار مكة (2 / 165)، والفاكهي في أخبار مكة (3 / 254)، كلهم من طرق عن سفيان بن عيينة به.

وفي إسناده عبد الرحمن بن فروخ العدوي مولاهم، قال الحافظ في التقريب ص348: مقبول، من الثالثة، ولم يصرح البخاري بذكره.ا.هـ

وقد ذكره ابن حبان في ثقاته (7 / 87)، ولم يتكلم عليه الذهبي في الميزان (2 / 582)، وذكره مسلم في الوحدان ص117 ممن تفرد عنه عمرو بن دينار بالرواية، ولم يزد البخاري في تاريخه (5 / 337) على هذا سوى  أنه عبد الرحمن بن فروخ مولى عمر بن الخطاب عن أبيه. ا.هـ

وقال الألباني في مختصر البخاري (2 / 137): إن عبد الرحمن هذا أشار الذهبي إلى أنه مجهول، لم يرو عنه غير عمرو بن دينار.

وذكر الحافظ في الفتح (5 / 91،92) أن عمر بن شبة رواه في أخبار مكة من طريق ابن جريج: أن نافع بن عبد الحارث.. فذكره، فأسقط عبد الرحمن، والصحيح أن ابن جريج يرويه عن عبد الرحمن أيضاً، كما روى ذلك عبد الرزاق في مصنفه (5 / 147،148).

ومع هذا فإن الظاهر والله أعلم أن هذا الأثر مما يحتج به، خاصة أن عمرو بن دينار كان يفتي به، ويحتج به، وكذلك كان الإمام أحمد يحتج به، فذكره في معرض الاستدلال على جواز بيع العربون كما نقله عنه ابنا قدامة في المغني والشرح الكبير (4 / 59) قالا: قال الأثرم: قلت لأحمد: تذهب إليه ؟ قال: أي شيء أقول؟ هذا عمر – رضي الله عنه -، وذكر الأثرم هذا الحديث بإسناده.

ونقله عنه ابن القيم أيضاً في بدائع الفوائد (4 / 84).

ومما يقوي هذا الحديث أيضاً أن قصة شراء عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – داراً للسجن بمكة من صفوان بن أمية قد اشتهرت بين أهل العلم، وبين من كتب في تاريخ مكة مثل: الأزرقي، والفاكهي، وابن شبة، حتى إنها كانت موجودة في عصر الفاكهي، وكانت لا تزال سجن مكة، فليراجع، والله أعلم.

ثم إنهم قد أجابوا عن حديث النهي بتضعيفه لعدم معرفة الثقة الذي روى عنه مالك، وهو مشهور من طريق ابن لهيعة – رحمه الله -.

وقد ضعفه الإمام أحمد بقوله عندما سئل عنه: ليس بشيء. نقله ابن القيم في البدائع (4 / 84).

وضعفه البيهقي (المعرفة 4 / 380)، والنووي في المجموع (9 / 335)، والمنذري في مختصر السنن (عون 9 / 399)، وابن حجر في التلخيص (3 / 17)، والألباني في ضعيف الجامع الصغير (6073)، وفي المشكاة (2864)، وقواه بمجموع طرقه الزرقاني في شرح الموطأ (3 / 250)، والشوكاني في النيل (5 / 153).

والأقرب – والله أعلم – هو ضعف هذا الحديث، وعدم انتهاضه للاحتجاج، خاصة أنه يدور على هذا المبهم، وكل من ذكر أهل العلم أنه هو المبهم فإنه إما يكون ضعيفاً، أو الطريق إليه لا تصح فتأمل.

بقي أن يجاب عن علة تحريم بيع العربون عند من يحرمه وهو أكل أموال الناس بالباطل، وأنه من الميسر، وأن فيه غرراً وجهالة..الخ.

فيقول الشيخ محمد بن عثيمين – رحمه الله – في شرح البلوغ ص100: "الجهالة في بيع العربون ليست جهالة ميسر، لأن جهالة الميسر يكون فيه المتعاملان بين الغنم والغرم، أما هذه فإن البائع ليس بغارم، بل البائع غانم، وغاية ما هنالك أن ترد إليه سلعته، ومن المعلوم أن المشتري لو شرط الخيار لنفسه مدة يوم أو يومين كان ذلك جائزاً، وبيع العربون يشبه شرط الخيار، إلا أنه يعطى للبائع جزءاً من الثمن إذا رد إليه السلعة، لأن قيمتها قد تنقص إذا علم الناس بهذا، ولو على سبيل التقديم، ففيه مصلحة.

وفيه أيضاً مصلحة للبائع من وجه آخر، أن المشتري إذا سلم العربون فإن في هذا دافع لتتميم البيعة.

وفيه كذلك مصلحة للمشتري لأنه يكون بالخيار في رد السلعة إذا دفع العربون، بينما لو لم يدفعه للزمه البيع". ا.هـ مختصراً.

قلت: ومما يدل كذلك على أن فيه مصلحة راجحة أن عدم اشتراطه قد يسبب خصومات ومفاسد كبيرة، خاصة في الاستصناع، حيث يصنع العامل للمشتري ما يريد، فيضمن العربون للعامل أخذ المشتري للبضاعة، ويضمن للمشتري عدم غش الصانع، أو بيعه البضاعة لغيره، أو هروبه عنه، ومماطلته في حال لو دفع الثمن كاملاً، وفي حالة عدم دفع أي شيء من المبلغ المتفق عليه، فأصبح العربون صمام أمان في كثير من المعاملات التجارية، إن لم يكن جميعها، ومعلوم تشوف الشارع الحكيم إلى مثل هذه الأمور التي تمنع الشحناء والبغضاء، والغش في التعامل بين المسلمين، وقد جرى على هذا العمل بين الناس، وقد قرر المجمع الفقهي المنعقد في دورته الثامنة من 1إلى 7 محرم 1414هـ ما يلي:

1- المراد ببيع العربون بيع السلعة مع دفع المشتري مبلغاً من المال إلى البائع، على أنه إذا أخذ السلعة احتسب المبلغ من الثمن، وإن تركها فالمبلغ للبائع.

ويجري مجرى البيع والإجارة لأنها بيع المنافع، ويستثنى من البيوع كل ما يشترط لصحته قبض أحد البدلين في مجلس العقد (السلم)، أو قبض البدلين (مبادلة الأموال الربوية والصرف)، ولا يجري في المرابحة الأمر بالشراء في مرحلة المواعدة، ولكن يجري في مرحلة البيع التالية للمواعدة.

2- يجوز بيع العربون إذا قيدت فترة الانتظار بزمن محدود، ويحتسب العربون جزءاً من الثمن إذا تم الشراء، ويكون من حق البائع إذا عدل المشتري عن الشراء.ا.هـ

وقال السنهوري في كتابه "مصادر الحق":

إن العربون لم يشترط للبائع بغير عوض، إذ العوض هو الانتظار بالمبيع، وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري، وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة، وليس بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول، إذ المشتري إنما يشترط خيار الرجوع في البيع، فإن لم يرجع فيها مضت الصفقة، وانقطع الخيار. ا.هـ

فالأقرب بناء على ما سبق – والله أعلم – هو الجواز، لأثر عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، ولضعف حديث النهي، غير أنه لو احتاط المسلم لدينه، وطلب البراءة له، وتجنب التعامل بالعربون لكان ذلك حسناً من باب التورع عن الشبهات. والله أعلم.

تنبيه:

ذكر النووي في المجموع (9 / 335)، وشمس الدين بن قدامة في شرح المقنع (4 / 59) صورة مباحة من صور بيع العربون – عند من يرى تحريمه – وهي فيما إذا دفع إليه قبل البيع درهماً، وقال: لا تبع هذه السلعة لغيري، وإن لم أشترها منك فهذا الدرهم لك، ثم اشترى منه بعد ذلك بعقد مبتدأ، وحسب الدرهم من الثمن، قالوا: فيصح البيع؛ لأنه خلا من الشرط المفسد، ويشترط الشافعية قول هذا الشرط قبل العقد، ولا يتلفظا به حالة العقد، وإلا كان باطلاً.

تنبيه:

ذكر ابن كثير في إرشاد الفقيه: أن أبا مصعب الزهري روى حديث النهي عن بيع العربان عن مالك حدثني ربيع عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.. فذكره، ثم قال: وهذا إسناد جيد، فليراجع.

ثم راجعت الموطأ رواية أبي مصعب الزهري (2 / 305) فوجدته عن مالك عن الثقة عنده، كما في رواية غيره، فالله أعلم، ولم يذكر ابن عبد البر أن أبا مصعب رواه عن مالك من طريق شيخه ربيعة، وكذلك غيره من الحفاظ والأئمة الذين تكلموا عن إسناد هذا الحديث، سوى ابن كثير، فليحرر.4

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 هذا البحث الآتي من إعداد وجمع الأخ/ أبي عبد الرحمن عدنان بن علي الأحمدي- مكة شرفها الله.   [email protected]  .

2 المصباح المنير ص401، وراجع اللسان (1 / 592) والنهاية (3 / 202).

3 أخرجه مالك في الموطأ (2 / 609)، وأبو داود (3502)، وابن ماجة (2192)، وأحمد (11 / 12 تحقيق شاكر) وغيرهم.

4 انظر التمهيد (24 / 176)، بدائع الفوائد (4 / 84)، البداية (7 / 293)، الإفصاح (1 / 361)، الروضة الندية (2 / 94)، الإنصاف (4 / 357)، شرح الزرقاني على الموطأ (3 / 250)، الروضة مع الحاشية (4 / 407)، الفروع (4 / 61)، الشرح الكبير (4 / 58)، المسوى (2 / 33)، تفسير القرطبي (5 / 150) المجموع (9 / 334)، الدرر السنية (6 / 40)، توضيح الأحكام (3 / 455)، حجة الله البالغة (2 / 197)، رحمة الأمة (141)، فقه السنة (3 / 261)، نيل الأوطار (5 / 153)، إعلام الموقعين (3 / 339).