حكم رحبة المسجد

حكم رحبة المسجد

حكم رحبة المسجد

 

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والصلاة والسلام على خير البشر، صاحب الوجه الأغر، القائم لربه في السحر؛ عدد ما هطل المطر، وأضاء القمر، وأزهر الشجر، وأينع الثمر، وتناسل البشر، وسلم تسليماً إلى يوم الدين أما بعد:

فإن من أحكام المسجد في الشريعة الإسلامية ما يسمى "رحبة المسجد" أو"صحن المسجد"، وهي البرحة التي تكون تابعة للمسجد، وهي مسألة مهمة بالنسبة لأحكام المسجد؛ من حيث أنها تابعة له، يصلي الناس فيها، ويزاولون فيها كل الأعمال التي يزاولونها في المسجد، وقد تكلم عليها العلماء قديماً وحديثاً، وبينوا أحكامها، وما يتعلق بها، وما يجوز فيها وما لا يجوز، وهل حكمها حكم المسجد أم لا؟ ولعلنا أن نستعرض هذه المسألة بشيء من التفصيل حتى تتم الفائدة فنقول:

رحبة المسجد في اللغة: هي ساحته ومتسعه، وسميت رحبة: لسعته1.

وأما الرحبة في اصطلاح الفقهاء فقد عرفت بما يلي:

ا- عرفها ابن حجر بأنها: "بناء يكون أمام باب المسجد غير منفصل عنه"2.

2- وقيل:"الرحبة صحن المسجد الجامع".

3- وقيل:"ما بني بجوار المسجد"3.

4– وقال: محمد بن عبد الحكم4، والقاضي أبو يعلى5: "إن الرحبة هي ما أضيف إلى المسجد محجراً عليه"6.

هذا ما يتعلق بتعريف الرحبة، وعلى ضوء هذا التعريف اختلفوا في حكمها هل تأخذ حكم المسجد أم لا؟

على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن الرحبة إن كانت متصلة بالمسجد محوطة به؛ فهي من المسجد، وتأخذ حكمه، وبهذا قال محمد بن عبد الحكم، وابن حجر، والقاضي، وأبو يعلى، وبعض الشافعية7.

القول الثاني: أن الرحبة ليست من المسجد مطلقاً متصلة أو منفصلة عنه، وهذا مذهب الأحناف8، ورواية عن مالك9، وبه قال بعض الشافعية10، والصحيح من مذهب الحنابلة11.

القول الثالث: أن رحبة المسجد منه مطلقاً، متصلة كانت أو منفصلة، وهذا مذهب مالك12، والشافعي13، ورواية عند الحنابلة14.

الأدلة:

دليل أصحاب القول الأول:

أراد أصحاب القول الأول أن يجمعوا بين القولين؛ لأن البناء المتصل بالمسجد يعتبر منه، ولأنه يجوز للمصلي به أن يقتدي بإمام المسجد15، فهذه حجتهم.

أدلة أصحاب القول الثاني ما يلي:

1- عن سالم بن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بنى رحبة في ناحية المسجد تسمى "البطيحاء"، فقال: "من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعراً، أو يرفع صوته؛ فليخرج إلى هذه الرحبة" رواه مالك في الموط16، والشاهد: "من كان يريد أن يلغط… فليخرج إلى هذه الرحبة" ووجه الدلالة:

أن عمر – رضي الله عنه – بين بمجمع من الصحابة أن الرحبة لا تأخذ حكم المسجد، وهي متصلة به ببناء، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، فلم ينكر عليه أحد، فصار كالإجماع السكوتي، وإذا كان هذا في الرحبة المتصلة بالمسجد فالمنفصلة من باب أولى.

2- قال البخاري – رحمه الله تعالى -: "وكان الحسن وزرارة بن أبي أوفى يقضيان في الرحبة خارجاً من المسجد"17، فهذا الأثر يدل على أن الرحبة لا تأخذ حكم المسجد، فلا يكره القضاء بين الناس فيها.

أدلة أصحاب القول الثالث ما يلي:

ا- أن الرحبة زيادة في المسجد، والزيادة تأخذ حكم الأصل، فهي كالمسجد.

2- أن الرحبة باعتبارها منفصلة؛ يصح اقتداء المصلي بها بإمام المسجد، إذا كان المقتدي يرى الإمام أو المأمومين أو يسمع الصوت18.

3- يصح الاعتكاف في الرحبة، ولا يعتبر الخروج إليها بلا عذر مفسداً للاعتكاف، وهذا يدل على أنها من المسجد19.

الترجيح:

إن الذي يتأمل أدلة الفريق الثاني يجد أن الرحبة التي بناها عمر – رضي الله عنه – منفصلة عن المسجد؛ وإلا فكيف يسمح عمر لمن أراد أن يلغط أو يرفع صوته أن يفعل ذلك، ومن في المسجد سيتأذى به، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ أَوْ قَالَ فِي الصَّلَاةِ))20؛ فكيف باللغط وارتفاع الأصوات وإنشاد الشعر، ثم إن أثر عمر – رضي الله عنه – مرسل تابعي، لكنه ثقة21، وأما الحسن وزرارة فقد ورد – أيضاً – أنهما كانا يصليان إذا دخلا رحبة المسجد، وهذا يدل على أنهما كانا يريان جواز القضاء بالمسجد22، والذي يتأمل مساجد المسلمين اليوم يجدها من جهة الرحبة تنقسم إلى ما يلي:

1- أن تكون الرحبة خلف مصابيح المسجد، ليس بينها وبين المسجد جدار فاصل فهذه من المسجد.

2- أن تكون الرحبة في وسط المسجد، وخلفها مصابيح، وأمامها مصابيح، ولا يدخل المسجد إلا منها فهذه من المسجد؛ وسواء فصل بينها وبين المصابيح بجدر أو لم يفصل.

3- أن تكون الرحبة محيطة بالمسجد، ولا يفصلها عن المسجد الجدار الخلفي، ولا يدخل المسجد إلا منها، فهذه من المسجد، لكن لا تصح الصلاة فيها أمام الإمام23.

4- أن تكون محيطة بالمسجد من جميع جوانبه، وعليها بناء، ومفصول بينها وبين المسجد بأبواب، فهذه محل خلاف، والظاهر أنها من المسجد.

5- أن تكون قطعة أرض ملاصقة للمسجد ولا بناء فيها، فهي من حريم المسجد، ولا تأخذ حكمه، حتى وإن كانت محيطة به من جميع الجوانب، فيصح اقتداء المصلي بها خلف إمام المسجد بالإمام إذا أمكنته المتابعة، أو رؤية بعض المأمومين.

6- أن تكون قطعة أرض مبنية بسور بينها وبين المسجد طريق، فليست من المسجد على الراجح عند أهل العلم.

ومما تقدم يعلم أن الراجح هو القول الأول، والله أعلم.

اللهم اغفر لنا وارحمنا وتجاوز عنا يا كريم، والحمد لله رب العالمين.


 


1 – لسان العرب لابن منظور ( 3 / 1606 ).

2 – فتح الباري ( 13 / 155 ).

3 – إعلام الساجد للزركشي ( ص346 ).

4 – هو: محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أبو عبد الله، ولد في منتصف ذي الحجة سنة 182هـ، قال: ابن عبد البر "كان فقيهًا نبيلاً، جميلاً وجيهًا"، وتوفي سنة 268 هـ، انظر: الديباج المذهب لابن فرحون (2/163).

5 – هو: محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء أبو يعلى، ولد سنة 380 هـ، وتوفي سنة 458 هـ . انظر: طبقات الحنابلة (2/193).

6 – الفروع لابن مفلح (3/153).

7 – فتح الباري (13/155)، (6/437)، وحاشية قليوبي وعميرة (1/2/76)، ومغني المحتاج (1/459).

8 – حاشية ابن عابدين (1/657)، وشرح فتح القدير (2/308) .

9 – حاشية الدسوقي (1/548)، وجواهر الإكليل (1/158).

10 – حاشية قليوبي وعميرة (1/2/83).

11 – الإنصاف للمرداوي (3/365).

12 – المدونة الكبرى لمالك (1/320).

13 – المجموع شرح المهذب (6/437).

14 – الفروع لابن مفلح (3/153).

15 – انظر: كشاف القناع (1/491)، وشرح النووي على مسلم (3/243).

16 – موطأ مالك (1/175).

17 – البخاري ك الأحكام ب 18 من قضى ولاعن في المسجد، وانظر: فتح الباري (13/154).

18 – كشاف القناع للبهتوني (1/491).

19 – المدونة لمالك (1/230) ، والمجموع شرح المهذب (6/437).

20 سنن أبي داود (ج 4/ رقم 1332).

21 – جامع الأصول لابن الأثير (11/204).

22 – فتح الباري (13/155).

23 – الإفصاح لابن هبيرة (1/153)، وفتح الباري (13/156).