رمضان وتحقيق التقوى

الحمد لله الذي أكرمنا برمضان، وجعله موسمًا للرحمة والعفو والغفران، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحيمُ الرحمن، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيدُ ولد عدنان، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله أهل التقوى والإيمان، وارض اللهم عن الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن أهل الرضوان، وعن بقية الصحب الكرام، والتابعين لهم بإحسان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة آل عمران:102] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [سورة النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [سورة الأحزاب:70-71].

أما بعد: فهنيئا لكم – معاشر المؤمنين – بلوغكم شهر رمضان، فبلوغه نعمة عظيمة، ومنة جليلة تستوجب شكر الله سبحانه، وكيف لا ورمضان يأتي بالرحمة والغفران، ويأتي بالبركة والرضوان، ويأتي بخيري الدنيا والآخرة؟!

فيا رب لك الحمد أن بلغتنا رمضان، ونسألك اللهم كما بلغتنا رمضان أن تعيننا فيه على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.

معاشر المؤمنين: إن رمضان هو شهر فريضة الصيام، فرضه الله – تعالى – بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:183]، فبدأ بنداء المؤمنين الخاضعين لأمر الله – سبحانه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ، وكما جاء عن ابن مسعود  أَنَّ رجُلًا أتاه فقال: اعْهَدْ إِلِيَّ، فقال: “إذا سمعتَ اللَّهَ يَقولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ يَأْمُرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عَنْهُ”(1)، فعلي المسلم حين يسمع يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أن يرعِىَ سمعه، ويرخي أذنه لنداء ربه؛ فإنه خيرٌ يأمرُ به، أو شرٌّ ينهى عنه.

عباد الله: إن الله – جل وعلا – جعل الصوم ركنًا من أركان الإسلام العظام، وعلامة على صحة الإيمان، إذ وجّه الخطاب للمؤمنين دون من سواهم، وجاء هذا المعنى صريحًا على لسان نبينا محمد خير الأنام صلوات ربي وسلامه عليه؛ ففي حديث أبي هريرة  أن رسول الهدى قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»(2)، وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله ﷺ: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»(3)، فبيّن أركان الإسلام ودعائمه، وأن الصيام واحد منها، ولا يجوز التفريط فيه، ولا التهاون في تركه.

إخوة الإيمان: ومع أن الصيام شُرع لمن قبلنا لكن الله اختص أمة الإسلام فيه بما لم يخص غيرها من الفضل العظيم، فخصّنا بشهر رمضان، وشرع لنا فيه الصيام والقيام، وامتن علينا بالأجور العظيمة كما قال المولى ​​​​​​​: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [سورة البقرة:185]

وخصّنا بليلة خير من ألف شهر، والتي مدحها الله – تعالى – وشرفها بقوله : إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [سورة الدخان:3]، وبقوله  ​​​​​​: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ۝  وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ۝  لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [سورة القدر:1-3]

معاشر المؤمنين: إذا كان الصيام شُرع من أجل التقوى؛ فهذا دليل على أن التقوى من المطالب العظيمة، وينبغي علينا أن نسلك الأسباب التي توصلنا إليها بعون الله – تعالى -.

والصيام مدرسة تتربّي فيها النفوس وتتزكّى، يربّيها على التقوى التي هي صلاح النفس، وطهارة لها من أدرانها، وسلامة لها من أمراضها، وفي الحديث الذي رواه الترمذي أن رسول الله قال: «لَا يَبْلُغُ العَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ البَأْسُ»(4)، وقال ابن مسعود  في قوله تعالى: اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [سورة آل عمران:102] قال: حَقَّ تُقَاتِهِ: “أن يُطاعَ فلا يُعصَى، وأن يُشكرَ فلا يُكفر، وأن يذْكرَ فلا يُنْسَى”(5).

عباد الله: إن الله – تبارك وتعالى – أوضح لنا الهدف من الصيام وضوحًا جليًّا حين قال: لَعَلَكُم تَتَّقُونَ، فاجعلوها نصب أعينكم دائمًا، اجعلوا التقوى أمامكم طوال صومكم، وفي كل أحوالكم، في ليلكم وفي نهاركم، حتى إذا انتهى الشهر وانقضى؛ سعدتم بآثار هذه التقوى، وكنتم على حال طيبة من القرب من ربكم ، فالنفوس أصبحت نقية لا تتطلع للمعاصي، ولا تركن إلى الشهوات، والقلوب صارت تقية، وتسارع في عمل الطاعات.

إذا تحققت التقوى لن نشتكي من خلو المساجد من عمّارها، ولن نحزن على قلة المصلين في الجماعات.

إذا تحققت التقوى لن نشكو من العودة لسيء العادات كالتدخين، وسماع الغناء، والسهر أمام الشاشات.

وإذا تحققت التقوى، وسارع الناس في مرضات رب الأرض والسموات؛ عمّ البلادَ والعبادَ الخيرُ والبركات.

فأنعم بتقوى الله من مقصد، وأنعم بها من حكمة عظيمة، وأكرم بها من غاية جليلة من حققها فاز فوزًا عظيمًا، ومن تحققت فيه أفلح فلاحًا مبينًا، كيف لا .. وأهلها هم الناجون من العذاب: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة الزمر:61]؟!

وكيف لا .. والأمن والسعادة لأهل التقوى: فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة الأعراف:35]؟!

وكيف لا؟! وهي تجلب التيسير للمزيد من الخير والطاعات: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۝  فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [سورة الليل:5-7].

وكيف لا.. وطريق الجنة هو طريقها ومسلكها: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [سورة مريم:63]، بل إن الجنة إنما أعدت للمتقين: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران:133]؟!

وكيف لا.. وتكفير السيئات ثمرة من ثمارها: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [سورة المائدة:65]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [سورة الطلاق:5]؟!

وهي مفتاح البركات وباب الخيرات: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [سورة الأعراف:96].

وهي عنوان الكرامة عند المَلِك – تبارك وتعالى -: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [سورة الحجرات:13].

وهي سبب سعة الأرزاق، ووفرتها، وتفريج الكروب وإزالتها: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝  وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [سورة الطلاق:2-3].

وأعظم فضائلها: حصول المعية لرب الأرض والسماء – جل جلاله، وتقدست أسماؤه -: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [سورة النحل:128]، واستجلاب ولايته – عزّ شأنه -: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [سورة الأنفال:34].

إخوة الإسلام: إذا عرفنا هذه المعاني العظيمة لحقيقة هذه الفريضة الكريمة التي امتنّ الله بها علينا، وجعل التقوى من أعظم آثارها.. ثم نظرنا لواقع الناس في رمضان وبعد رمضان؛ أحزن قلوبنا أن نجد من المسلمين من لا يرعى للشهر حرمة، ويكتفي فيه بصيامه عن الطعام والشراب دون تورّع عما حرم الله من أذى الناس، وظلمهم، وغيبتهم، أو العكوف على فضائيات اللهو والمنكرات، أو السهر في أماكن المجون والاختلاط، أو الإسراف في المباحات والملذات، وكثرة صنوف المأكولات والمشروبات بما يزيد عن الحاجة، وبعدها يلقى أكثره في سلة المهملات، فلا هم أكلوه، ولا للفقراء أعطوه، إلى غير ذلك الكثير والكثير، وإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

عباد الله: كما يدمي القلوب بعد فراق الشهر أن يفارق كثير من الناس ما كانوا عليه من خير، فأين أثر التقوى والإقبال على الطاعات؟ وأين عُمّار المساجد؟ وأين قراء القرآن؟ وأين المتهجدين والمستغفرين بالأسحار؟ وأين دموع التائبين؟ وأين تضرعهم في الدعاء؟

فهل التقوى لم تكن غاية، أم كان الخلل في الصيام؟ حاشا وكلا؛ إن وعد ربي حقّ، وليس أصدق منه مقال، ولكننا ظننا أن الصيام جوع وترك للطعام وللشراب، فما أغنى عنا شيئًا وما حصّلنا إلا السراب.

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن بعد رمضان حصاد: فإما الفوز وإما الخسران، فاربأ بنفسك أخي المسلم أن تكون من الخاسرين في شهر الخير العظيم.

معاشر الموحدين

لعلنا في شوق الآن لنعرف كيف نحصّل فضيلة التقوى؟ وكيف نحققها؟ وكيف أن الصيام مصدرها ومنبعها؟

نعم – عباد الله – الصيام والتقوى قرينان؛ فالصيام هو الإمساك عن المفطرات بنيةٍ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والمفطرات معلومة للجميع من أكل وشرب وجماع بما في ذلك من تفصيلات، ولكن انظروا .. فهذه المفطّرات مباحة في الأصل، وليست محرمة، فالصوم امتناع عن أمور حلال مباحة خلال فترة من الزمان، ثم بعد ذلك تصبح متاحة له، فلسنا نصوم عن المسكرات بأنواعها، أو عن الميتة، أو غيرها من المحرمات، بل نمسك عن الحلال المباح مدة من الزمان فقط كما شرع الله ​​​​​​​.

وكأن المعنى: أن تتمكن من التحكم فيما تشتهيه نفسك من هذا الحلال المباح، فإن استطعت فأنت على غيره أقدر، فمن يقدر على البعد عن شهواته المباحة يقدر على البعد عن الشهوات المحرمة من باب أوْلى.

وتمام الصيام أن يصوم الإنسان عن معصية الله ​​​​​​​، أن يجتنب المحظورات، وأن يبتعد عن المحرمات لقوله : «الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ»(6) بمعنى أنه يبعدك عن الحرام، ويبعدك عما يغضب الواحد القهار، مما يجعلك بعيدًا عن النار يقول ابن العربي: “إنما كان الصوم جُنّة من النار؛ لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات، فالحاصل أنه إذا كفَّ نفسه عن الشهوات في الدنيا؛ كان ذلك ساترًا له من النار في الآخرة”(7).

والمعصية – إخوة الإسلام – تؤثر في الصوم؛ لقوله : مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ [1]رواه البخاري (1903).؛ لأن الأصل أن الصيام هو فطام للنفس عن شهواتها وملذاتها، وإبعادها عن ذلك، وإلا فما الحاجة في الجوع وترك الطعام مع إتيان المحرمات؟!

قال ابن بطال: “ودل قوله : «فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» على أن الزور يحبط أجر الصائم، وأن من نطق به في صيامه كالآكل الشارب عند الله – تعالى – في الإثم”(8).

فصاحب الزور – والزور يشمل كل ما هو باطل وحرام – لم يعمل بالحكمة من الصيام وهي تقوى الله؛ وقد قال : {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} فإن معناه: لن يصيب رضاه الذي ينشأ عنه القبول.

ومن ذلك ما ورد في الغيبة فعن أبي عبيدة بن الجراح قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ، مَا لَمْ يَخْرِقْهَا»، قال الدارمي: “يَعْنِي: بِالْغِيبَةِ”(9)، والجُنّة أي: كجنة المقاتل وهي الترس الذي يتقي به السهام والسيوف في الحرب، فهذا يدل على تأثير الغيبة على الصيام.

إخوة الإيمان:

والصيام يحصل معه الجوع والعطش، وهو ما يكون سبيلًا إلى شبع الجوارح، أما إذا شبعت البطن جاعت الجوارح وطلبت الشهوات، وانغمست في الملذات، وفترت عن الطاعات، وضعفت عن العبادات، وهذا أمر معلوم ومشاهد لا شك فيه ولا مرية، فكم من أكلات ومشارب وملذات حرمت صاحبها طاعات وعبادات أيامًا وشهورًا بل وسنين، وربما حرمته من عبادات وطاعات عمره كله – نسأل الله السلامة -، قال الفضيل بن عياض: “إذا لم تقدر على قيام الليل، وصيام النهار، فاعلم أنك محروم، كبلتك خطيئتك”(10).

ومما يبيّن لنا أيضًا أن الصيام والتقوى قرينان؛ أن الله – تعالى – ذكره من بين سائر العبادات والأعمال، وخصه بها؛ فالصوم له مزية خاصة في تربية التقوى في النفوس، فهذا من فضائل الصوم، وتميزه على غيره من العبادات.

كما اختص الله – تعالى – الصيام لنفسه وبالجزاء عليه كما في قوله فيما يرويه عن ربه – تبارك وتعالى -: «قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»(11) فخص الصوم مع أن كل الأعمال الصالحة لله – تبارك وتعالى -، لكن هذا الصوم يمنع الإنسان من ملاذه، وأعظم المُتع واللذات هي الأكل والشرب والنكاح، فيمتنع منها لله، ولو أكل وشرب لم يطلع عليه أحد، فزوجته عنده ومع ذلك يمتنع، والطعام والشراب بين يديه فيتركه لله قال ​​​​​​​: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [سورة البينة:5]، وقال ﷺ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».

عباد الله: والصوم يسمو بالنفس، ويصعد بها في مراقي الفلاح؛ لأنه مانعها من الشهوات، لذا يسعد الصائم بهذا السمو، ويحصل ثمرته يوم القيامة شفاعةً من صيامه وقرآنه، روى أحمد في مسنده عن عبدالله بن عمرو – رضي الله عنهما -: أن رسول الله قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعامَ والشهواتِ بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه»، قال: «فيشفعان»(12).

ومن سمو الصيام أيضًا أن الصائم الصادق يسلم لسانه عن اللغو وفحش الكلام، وإعراضه عمن سابَّه أو شاتمه كما جاء عن أبي هريرة  أنه قال: قال رسول الله : «والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم»(13).

كما نجد الصائم مراقبًا لله – جل وعلا – في ما يفعل ويدع، ولديه تحفُّظٌ من الشبهات، فهذا يسأل عن المضمضة، وآخر يسأل عن السواك، وثالث يسأل عن التقبيل للزوج، ورابع يخشى قطرة العين، وغيرها كثير، مع أنها أمور مباحة على الراجح في معظمها إلا أن كثيرين يتحرزون منها حرصًا على صومهم، وابتعادًا عن أي شائبة قد تفسده، وهذا إن دل فإنما يدل على أن النفس تأثرت بالحكمة من الصوم وهي تقوى الله  ، وهو ما نحتاج أن نستثمره في كل حياتنا ومعاملاتنا فيما بيننا وبين الله – تبارك وتعالى -، وفيما بيننا وبين الناس، وكذلك مع أنفسنا.

فهذه العلامات والسمات وغيرها هي بيان عملي للتقوى في أوضح صورة وأبهاها، إذ التقي هو من اتقى الله فأطاعه، وابتعد عن سخطه ومعاصيه، واتقى النار بالبعد عن أسبابها، وسعى للجنة سعيها، وهذا ما يفعله الصيام بصاحبه فعن سهل بن سعد  عن رسول الله قال: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة»(14)، والصائم يمتنع عن فحش الكلام ورديئه، كما يحفظ فرجه ويصونه عن الحرام.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وأتوب إليه؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وبعد:

معاشر المؤمنين؛ كان من هدي النبي في شهر رمضان المبارك: الإكثار من الطاعات والعبادات، والحث على اغتنام هذه النفحات، فعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ»(15).

وقدم من نفسه القدوة، فكان يجتهد في هذا الشهر ما لا يجتهد في غيره فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»(16).

وعن عائشة – رضي الله عنها -: “كَانَ رَسُولُ اللهِ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ”(17).

وهكذا كان السلف الصالح والصحب الكرام على خطى الحبيب  يسيرون.

فهذا ذو النورين  ذكر أنه كان: “حظه من النهار الجود والصيام، ومن الليل السجود والقيام”(18).

وعن أبي المهلب: كان تميم الداري – الصحابي – يختم القرآن في سبع(19).

وكان الأسود بن يزيد  يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليال(20).

وكان سعيد بن جبير – رحمه الله – يختم القرآن في كل ليلتين(21).

وكان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم كل ليلة(22).

هكذا اجتهد هؤلاء الأخيار القدوات، وسعوا للآخرة سعيها، وفطموا نفوسهم عن شهواتها، وصاموا عنها في دنياهم، وجعلوا فطرهم يوم القيامة، فسعدوا أيّما سعادة، فهم الذين استجابوا لله ولرسوله حينما دعاهم لما يحييهم، وجعلوا بينهم وبين عذاب الله ومساخط الله حجابًا ووقاية؛ ففازوا بالأمن والنجاة.

فلنجدّ ولنجتهد – إخوة الإيمان -، ولنكثر من الخيرات فهي نعم الزاد، ولنتب إلى الله – تعالى – مما مضي فالموت والآخرة أقرب لنا من ثيابنا، وأقبلوا على الخير فهو عميم، وأكثروا منه فهو وفير، ولا تحرموا أنفسكم منه فهو الخسران المبين، ولا تنسوا الحوجى والمساكين، وتذكروا قول نبيكم – صلوات ربي وسلامه عليه -: «إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا»، فقام أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «لِمَنْ أَطَابَ الكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ»(23).

ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، وصلوا على خير النبيين .

اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يسمع، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفّس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الرحمين.

اللهم ما سألناك من خيرٍ فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا، وما قصرت عنه آمالنا من الخيرات فبلغنا.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


  1. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، مخرجا برقم: (3891).
  2. متفق عليه.
  3. متفق عليه.
  4. رواه الترمذي (2451).
  5. رواه النسائي في السنن الكبرى (11847).
  6. سنن النسائي (4/ 167).
  7. فتح الباري لابن حجر (4/ 104).
  8. شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/ 23).
  9. سنن الدارمي (2/ 1081).
  10. سير أعلام النبلاء (8/ 435).
  11. متفق عليه.
  12. رواه أحمد (6626).
  13. رواه البخاري (1904).
  14. رواه البخاري (6474).
  15. رواه الترمذي (682).
  16. رواه البخاري (6)، ومسلم (50- 2308).
  17. رواه مسلم (8- 1175).
  18. الحلية لأبي نعيم (1/ 55).
  19. سير أعلام النبلاء (2/ 445).
  20. سير أعلام النبلاء (4/ 51).
  21. سير أعلام النبلاء (4/ 325).
  22. سير أعلام النبلاء (5/ 276).
  23. رواه الترمذي (1984).

References

References
1 رواه البخاري (1903).