هدي النبي في خطبة الجمعة

هدي النبي – صلى الله عليه وسلم –

هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – في خطبة الجمعة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبهداه إلى يوم الدين، أما بعد:

معلوم أن هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – هو خير الهدي، وأنه إمام الأئمة والخطباء والواعظين، من تمسك بهديه أفلح ونجا، ومن ترك سنته تخبط في الدجى، ومن هديه ما كان يفعله – صلى الله عليه وسلم – في خطبة الجمعة، فقد ظهرت لدى المتأخرين طرائق عجيبة، وأساليب غريبة؛ مما أكد ضرورة التعرف على هدي النبي – صلى الله عليه وسلم- في كل أحواله وخاصة في عباداته، لأن كل الخير في الاهتداء بهديه، والتمسك بسنته.

ولقد كان من هديه في خطبته أن يقتصر على أقل الكلام الذي يوصل المعنى المطلوب، ويأتي بالكلام الذي يجمع كل ما يريد قوله؛ حيث قد آتاه ربه جوامع الكلم كما جاء في الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((بعثت بجوامع الكلم))1، فكان لا يتكلف في الكلام، ولا يزيد فيه ما لا يحتاجه، بل أنه لو عُدَّ كلامه لأحصي، إذ يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق فعن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – "كان يحدث حديثاً لو عدَّه العادُّ لأحصاه"2، وتقول أيضاً – رضي الله عنها -: "إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يسرد الحديث كسردكم"3.

وكان من هديه – صلى الله عليه وسلم – أنه لا يطيل الخطبة، بل يحث على تقصيرها، وجعل التقصير في الخطبة علامة على فقه الخطيب، وبهذا عمل أصحابه من بعده؛ فتعلم من ذلك صدق محبتهم له باتباعهم له، واهتدائهم بهديه، قال أبو وائل: خطبنا عمار – رضي الله عنه – فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست، فقال: إني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته؛ مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحراً))4، قال النووي – رحمه الله تعالى -: "(مئنة من فقهه) بفتح الميم ثم همزة مكسورة ثم نون مشددة أي: علامة"5، فلا تطويل ممل، ولا تقصير مخل، بل قصد بين ذلك، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الخطباء والوعاظ، فيطلع على جوامع الألفاظ، ويعبر باللفظ الموجز البليغ، ويقصد في خطبته وموعظته، ولا يعني ذلك أنه يقصر الخطبة، ويطيل الصلاة إطالة مفرطة، بل قصداً بين ذلك؛ فعن جابر بن سمرة – رضي الله عنه – قال: "كنت أصلي مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فكانت صلاته قصداً، وخطبته قصداً"6، قال الإمام النووي – رحمه الله تعالى -: "قوله فكانت صلاته قصداً، وخطبته قصداً، أي: بين الطول الظاهر، والتخفيف الماحق"7.

وكان من هديه – صلى الله عليه وسلم – أنه إذا صعد المنبر استقبل الناس، وسلم عليهم، ثم جلس، ثم يؤذن بلال، وبعد الأذان يحمد الله – تعالى – ويشرع بالخطبة فعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) – ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى – ويقول: ((أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة))، ثم يقول: ((أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليَّ، وعلي))8، ومن هذا الحديث نعلم أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يتفاعل مع ما يقول فيُرى ذلك التفاعل على وجهه، وذلك ما ذكره جابر – رضي الله عنه – عندما قال: كأنه منذر جيش.

وكان من هديه أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يقرأ القرآن في الخطبة، ويستدل بالآيات، فعن صفوان بن يعلى عن أبيه: "أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ على المنبر: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ}9"10، بل أنه – صلى الله عليه وسلم – من كثرة ما كان يقرأ القرآن في الخطبة حفظ بعض الصحابة سوراً من القرآن فعن عمرة بنت عبد الرحمن عن أخت لعمرة قالت: "أخذت{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}11 من فيِّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم الجمعة، وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة"12، أما في عصرنا الحاضر فقد نسمع الخطب الرنانة لكنها للأسف تخلو من آيات الله – عز وجل -.

وكان – صلى الله عليه وسلم – ربما يقطع الخطبة لإرشاد أو نصح أو توجيه فعن جابر – رضي الله عنه – قال: "دخل رجلٌ يوم الجمعة والنبي – صلى الله عليه وسلم – يخطب فقال: ((أصليت؟))، قال: لا، قال: ((قم فصل ركعتين))13.

وكان – صلى الله عليه وسلم – يخطب خطبتين يجلس بينهما فعن سماك قال: أنبأني جابر بن سمرة – رضي الله عنه – "أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يخطب قائماً ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة"14.

وكان – صلى الله عليه وسلم – يشير بأصبعه عند الدعاء، ولا يرفع يديه فقد جاء في صحيح مسلم "أن عمارة بن رؤيبة رأى بشرَ بن مروان على المنبر رافعاً يديه، فقال: "قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما يزيد على أن يقول بيده هكذا – وأشار بإصبعه المسبحة -"15.

هذا ما تيسر هنا ذكره، وحريٌ بالمسلم أن يتتبع هدي المعصوم – صلى الله عليه وسلم – حتى يوافق الصواب، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 البخاري (2755)، ومسلم (831).

2 البخاري (3303)، ومسلم (5325).

3 البخاري (3303).

4 مسلم (1437).

5 شرح مسلم للنووي (6/ 158).

6 مسلم (1433).

7 شرح مسلم للنووي (6/153).

8 مسلم (1435).

9 سورة الزخرف (77).

10 البخاري (3026)، ومسلم (1439).

11 سورة ق (1).

12 مسلم (1440).

13 البخاري(879)، ومسلم (1445).

14 مسلم (1427).

15 مسلم (1443).