مكانة البيت الحرام

مكانة البيت الحرام

مكانة البيت الحرام

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير أما بعد:

فإن المتأمل في كتاب الله – تعالى – وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – يجد أن الشريعة راعت حرمة الأزمنة والأمكنة، وحفظت لكل شعيرة من الشعائر مكانتها ومزيتها، وفارقت بين الشعائر في مقدار الحرمة وحجمها، والتهويل في شأنها والتشديد عليها؛ كما خففت في البعض الآخر، كما لو همَّ الإنسان بمعصية في بيت من بيوت الله ولم يفعلها كتبها الله له حسنة كما جاء في الصحيح؛ ولكنه إذا همَّ بنفس المعصية في بيت الله الحرام عاقبه الله وأذاقه العذاب الأليم {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}1.

وإن المتأمل في مكانة بيت الله الحرام؛ يرى أن له مكانة عظيمة في دين الإسلام، مستمداً هذه العظمة من كتاب الله، ومن سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، ومن تاريخ الإسلام.

وإذا كنا قد تكلمنا عن تاريخ بيت الله الحرام فلابد من الكلام عن مكانته لاسيما وقد قال الله عنه: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}2، وإن المتأمل في التاريخ يرى أن تاريخ بناء الكعبة المشرفة يرجع إلى أصول وجذور تمتد إلى ما قبل عهد إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام -، فهناك من قال: إن الملائكة هم أول من بنى البيت، وأسسه بأمر من الله – تعالى -، وهناك من نسب بناءها إلى آدم – عليه السلام -؛ حيث أوحى الله – عز وجل – إلى آدم ببناء الكعبة المشرفة، ثم توالت القرون حتى جاء إبراهيم وابنه إسماعيل – عليهما السلام – فرفعا قواعد البيت قال- تعالى -: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم *ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم}3.

ومهما يكن من أمر فإن الكعبة كانت أول بيت وضع للناس لعبادة الله الواحد الأحد، وفيه آيات بينات، والكعبة المشرفة مكان مقدس عند جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، إذ هي قبلتهم في الصلاة ومقصدهم في الحج، وجعل الله البيت الحرام في مكة المكرمة مثابة للناس وأمناً تحقيقاً للغاية السامية والحقيقة الكبرى التي من أجلها خلق الله الجن والأنس فقال – تعالى -: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}4.

ولقد جعل الله للبيت الحرام مزايا وفضائل أضفت عليه قدسية خاصة عنده سبحانه وفي نفوس المؤمنين، ومن هذه الفضائل:-

1-    أنه أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله – عز وجل -، فقد أمر الله – عز وجل – إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – برفع القواعد من البيت، والقيام على خدمته ليكون موئلاًً للطائفين والعاكفين، والركع السجود فقال – تعالى -: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود}5، وعن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن أول مسجد وضع في الأرض؟ قال: ((المسجد الحرام))، قلت: ثم أي؟ قال: ((المسجد الأقصى))، قلت: كم بينهما؟ قال: ((أربعون عاماً))6.

2-    أن الكعبة المشرفة هي قبلة المسلمين في صلاتهم، فلا تصح الصلاة إلا باستقبال القبلة، وعلى كل مسلم أن يتوجه في صلاته إليها، فهي جامعة لقلوب كل المسلمين، وموحدة لأنظارهم قال – تعالى-: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره}7.

3-          وهي ثاني القبلتين بعد القبلة الأولى وهي بيت المقدس.

4-    وجعل الله الكعبة المشرفة مقصد المسلمين في الحج، فأمرهم بحج البيت في مناسك وشعائر مخصوصة من النية، والإحرام، والطواف بالكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، والإفاضة إلى المزدلفة، والمبيت في منى، ورمي الجمار ونحو ذلك فقال – تعالى -: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}8.

5-    ومن المميزات اختصاص المسجد الحرام بشد الرحال إليه لقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشد الرحال الا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى))9.

6-    ومن المميزات أن الله – تعالى – اختص الصلاة في البيت الحرام بالفضل من حيث أنها تعدل مئة ألف صلاة، والركعة بمئة ألف ركعة فيما سواه من المساجد لقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد الا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة صلاة في مسجدي هذا))10، وفي رواية: ((الصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة، والصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة، وصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة)).

7-    وأيضاً أن المسجد الحرام أفضل بقاع الأرض على الإطلاق، فكما جعل الله نبينا محمداً أفضل الرسل على الإطلاق، وفضل في الأزمنة شهر رمضان على سائر السنة، وفضل ليلة القدر على غيرها من الليالي؛ فقد جعل المسجد الحرام أفضل بقعة مكانية على الأرض قال – صلى الله عليه وسلم – عندما خرج مهاجراً إلى المدينة المنورة مخاطباً مكة: ((والله إنك خير أرض الله إلى الله، وأحب أرض الله إلى، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت))11.

8-    ومن فضائله أن من دخله كان آمناً فهو بمثابة الأمن لكل خائف قال – تعالى -: {أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم}12، وقد قال – صلى الله عليه وسلم – في خطبته: ((إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار – أي يوم فتح مكة -، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة))13.

9-    واختص الله الكعبة المشرفة بالهدي – هدي الكعبة- قال – تعالى-: {هدياً بالغ الكعبة}، والهدي هو الحيوان من الأنعام يسوقه الحاج ليذبحه بعد أداء مناسكه قرباناً وشكراً لله – عز لله عز وجل -، وكلمة الهدي من الإهداء على اعتبار أن القربان هدية من الحاج إلى الله أو إلى الكعبة المشرفة، حيث ينتفع بذلك فقراء أهل الحرم الشريف.

10-  أن من قصد الكعبة المعظمة من الحجاج والمعتمرين إيماناً واحتساباً كان كفارة لذنوبه قال – صلى الله عليه وسلم -: ((من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه))14.

11-  أن الله حمى الكعبة المشرفة من شر الأحباش، حيث أقدم أبرهة على رأس الجيش الحبشي قاصداً مكة يريد هدمها فحمى الله الكعبة بأن أرسل الطير الأبابيل يحمل كل منها ثلاثة أحجار، حجر في منقاره، وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس، لا تصيب أحداً من جيش أبرهة إلا أهلكته؛ فهلك معظم جند أبرهة، أما أبرهة فقد مسه حجر فصرع، وظهر على جسمه بلاء عظيم، وأخذت أجزاء جسمه تتساقط حتى مات، وكان إخفاق حملة الفيل معجزة كبرى، وشاء الله أن يمعن في الانتقام من الأحباش لإقدامهم على محاولة هدم الكعبة فما لبث أن زال حكمهم من بلاد اليمن؛ فخلت الجزيرة العربية من آثار النفوذ الحبشي، وخلد القرآن الكريم هذا الحدث التاريخي الكبير، فنزلت فيه سورة خاصة هي سورة الفيل: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيراً أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول}15.

12-  ومن خصائص البيت الحرام كما جاء في الأحاديث الصحيحة أنه ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، وليس نقب من أنقابها إلا عليه ملائكة حافين يحرسونها، والنقب هو الباب وقيل الطريق.

13-     ومن خصائصها أن المهدي يخرج منها كما دلت على ذلك الأحاديث.

14-     كما أن المسجد الحرام اختصه الله ببعض الأحكام وهي كثيرة مبسوطة في كتب الفقه الإسلامي، من ذلك:

أ‌-  أن الصلاة النافلة تشرع في كل الأوقات في الحرم  الشريف للحديث: ((يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار))16.

ب- ومن هذه الأحكام أنه يحرم استقبال أو استدبار الكعبة عند قضاء الحاجة بلا حائل، وذلك حرمة للقبلة، وتعظيماً للكعبة التي هي قبلة المسلمين في الصلاة، ومقصدهم في الحج، وإليها يشدون الرحال، كما حرم الله دفن المشركين في مكة، ومنع دخولهم فيها لقوله – تعالى -: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}17.

ج- كما يحرم أن يهم المسلم بالسيئة فيها، وأن من يفعل ذلك – أي الهم بالسيئات – يعاقب ولو لم يفعل السيئة، فكما أن الحسنات تضاعف في مكة فإن السيئات تضاعف كذلك، والى هذا أشار الله – تعالى – بقوله: {ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}18.

د- كما أنه يحرم القتال، وإقامة الحدود فيه، ويحرم صيد طيور الحرم، وقطع شيء من نباته لقوله – صلى الله عليه وسلم – يوم الفتح الأعظم: ((إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، أو يعضد بها شجرة))، وقال: ((لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده)) وقال: ((فليبلغ الشاهد الغائب))19.

اللهم وفقنا لكل خير، وادفع عنا كل ضير، والحمد لله رب العالمين.


 


1 – (الحج: من الآية25).

2 – (سورة آل عمران آية 97).

3 – (سورة البقرة الآيات 127- 128).

4 – (سورة الذاريات الآية 56).

5 – سورة البقرة آية (125).

6 – رواه مسلم برقم (520).

7 – سورة البقرة آية (144).

8 – سورة آل عمران آية (97).

9 – رواه البخاري برقم (1189) ومسلم برقم (827).

10 – رواه البخاري برقم (1394).

11 – رواه أحمد برقم (18242).

12 – العنكبوت الآية (67).

13 – رواه البخاري برقم (4313) ومسلم برقم (1353)..

14 – رواه البخاري برقم (1521) ومسلم برقم (1350).

15 – (سورة الفيل).

16 – رواه أحمد برقم (16294).

17 – سورة التوبة آية (28).

18 – الحج آية (25).

19 – رواه مسلم برقم (1354).