وفد نصارى نجران

وفد نصارى نجران

 

اللهم لك الحمد على جلالك وكمالك وجميل صفاتك وأفعالك، ولك الشكر على توفيقك ونعمك وآلائك، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:

فقد كانت الوفود التي تأتي إلى المدينة دليل واضح على تمكن الإسلام في الجزيرة العربية، وشهرته فيها، وما كانت لتأتي تلك الوفود لو كان الإسلام ضعيفاً في عقر داره.. لقد مكن الله تعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- في الأرض بعد أن ظل النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو الناس إلى الله تعالى عشرين سنة، فبعد غزوة تبوك التي أرعب فيها الرسول عليه الصلاة والسلام جيوش الروم جاءت الوفود من أنحاء الجزيرة العربية المختلفة، ومن تلك الوفود وفد نجران، وقد كانوا نصارى.. وسيكون موضوعنا عن هذا الوفد، نرى ما الذي جرى بينهم وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

قال ابن إسحاق: وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران بالمدينة فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه مسجده بعد صلاة العصر فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوهم)) فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.

وقد كان وفد نصارى نجران ستين راكباً منهم أربعة وعشرون رجلاً من أشرافهم، والأربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب، أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره، واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أخو بني بكر بن وائل أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم. وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم، وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرَّفوه وموَّلوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات؛ لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم.

اعتراف وجحود:

فلما وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له موجهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى جنبه أخ له يقال له كرز بن علقمة يسايره إذ عثرت بغلة أبي حارثة فقال له كرز: تعس الأبعد! يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست. فقال: ولِمَ يا أخي؟ فقال: والله إنه النبي الأمي الذي كنا ننتظره. فقال له كرز: فما يمنعك من اتباعه وأنت تعلم هذا؟ فقال: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرَّفونا وموَّلونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى!! فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك.

المجادلة في دين إبراهيم:

روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم  إلا يهودياً، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانياً، فأنزل الله عز وجل فيهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ*هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ*مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ*إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (65-68) سورة آل عمران. فقال رجل من الأحبار: أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ وقال رجل من نصارى نجران: أو ذلك تريد يا محمد وإليه تدعونا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا أمرني)) فأنزل الله عز وجل في ذلك: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} (79-80) سورة آل عمران. ثم ذكر ما أخذ عليهم وعلى آبائهم من الميثاق بتصديقه وإقرارهم به على أنفسهم فقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (81) سورة آل عمران.

إنه رسول من رب العالمين:

لما قدم وفد نجران على رسول الله يسألونه عن عيسى ابن مريم نزل فيهم فاتحة آل عمران إلى رأس الثمانين منها. وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران: ((باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد: فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم آذنتكم بحرب، والسلام)).

فلما أتى الأسقف الكتاب فقرأه فظع به وذعر به ذعراً شديداً، فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة، وكان من همدان، ولم يكن أحد يدعى إذا نزل معضلة قبله لا الأَيْهم ولا السيد ولا العاقب، فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقرأه فقال الأسقف: يا أبا مريم ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة، فما يُؤمَن أن يكون هذا هو ذلك الرجل، ليس لي في النبوة رأي، ولو كان أمراً من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأيٍ وجهدت لك.

فقال له الأسقف: تنح فاجلس.

فتنحى شرحبيل فجلس ناحيته.

فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبدالله بن شرحبيل، وهو من ذي أصبح من حمير، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي، فقال له مثل قول شرحبيل، فقال له الأسقف: تنح فاجلس فتنحى فجلس ناحيته.

فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه، فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله فأمره الأسقف فتنحى. فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعاً أمر الأسقف بالناقوس فضرب به، ورفعت المسوح في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار، وإذا كان فزعهم بالليل ضرب الناقوس ورفعت النيران في الصوامع، فاجتمع -حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح- أهل الوادي أعلاه وأسفله وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع، وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل، فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الرأي فيه، فاجتمع رأي أهل الوادي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبد الله بن شرحبيل وجبار بن فيض الحارثي فيأتوهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المباهلة في شأن عيسى:

انطلق ذلك الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ولبسوا حللاً لهم يجرونها من الحبرة وخواتيم الذهب، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه، فلم يرد عليهم السلام، وتصدوا لكلامه نهاراً طويلاً، فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل والخواتيم الذهب، فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وكانا معرفة لهم، كانا يخرجان العير في الجاهلية إلى نجران فيشترى لهما من برها وثمرها وذرتها، فوجدوهما في ناس من الأنصار والمهاجرين في مجلس فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرحمن إن نبيكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد علينا سلامنا، وتصدينا لكلامه نهاراً طويلاً فأعيانا أن يكلمنا فما الرأي منكما أنعود؟ فقالا لعلي بن أبي طالب  وهو في القوم ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ فقال علي لعثمان وعبد الرحمن رضي الله عنهما: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يأتوا إليه، ففعل الوفد ذلك فوضعوا حللهم وخواتيمهم ثم عادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه فرد سلامهم، ثم سألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى عليه السلام؟ فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى فيسرنا إن كنت نبياً أن نعلم ما تقول فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال لي في عيسى عليه السلام)) فأصبح الغد وقد أنزل الله عز وجل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ*الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ*فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (آل عمران 59 – 61)، فأبوا أن يقروا بذلك، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعدما أخبرهم الخبر أقبل مشتملاً على الحسن والحسين رضي الله عنهما في خميل له وفاطمة رضي الله عنها تمشي عند ظهره للمباهلة، وله يومئذ عدة نسوة، فقال شرحبيل لصاحبيه: يا عبد الله بن شرحبيل ويا جبار بن فيض قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي، وإني والله أرى أمراً ثقيلاً، إن كان هذا الرجل ملكاً متقوياً فكنا أول العرب طعن في عينه ورد عليه أمره لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور قومه حتى يصيبونا بجائحة، وإنا أدنى العرب منهم جواراً، وإن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعنَّاه فلا يبقى على وجه الأرض منا شعرة ولا ظفر إلا هلك!

فقال له صاحباه: فما الرأي فقد وضعتك الأمور على ذراع فهات رأيك؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً. فقالا له: أنت وذاك.

فلقي شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك، فقال: ((وما هو؟)) قال شرحبيل: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح، فمهما حكمت فينا فهو جائز. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعل وراءك أحداً يثرب1 عليك)) فقال له شرحبيل: سل صاحبيَّ، فسألهما فقالا: ما يرِد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل.

كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم ورجوعهم إلى نجران:

رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلاعنهم، حتى إذا كان من الغد أتوه فكتب لهم في الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتب محمد النبي رسول الله لنجران: أن كان عليهم حكمه في كل ثمرة وفي كل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق، فأفضل عليهم وترك ذلك كله على ألفي حلة، في كل رجب ألف حلة، وفي كل صفر ألف حلة، وكل حلة أوقية، ما زادت على الخراج أو نقصت على الأواقي فبحساب، وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بحساب وعلى نجران مثواة رسلي ومتعتهم بها عشرين فدونه، ولا يحبس رسول فوق شهر، وعليهم عارية ثلاثين درعاً وثلاثين فرساً وثلاثين بعيراً إذا كان كيد باليمن ومغدرة، وما هلك مما أعاروا رسولي من دروع أو خيل أو ركاب فهو ضمان على رسولي حتى يؤديه إليهم. ولنجران وحسبها جوار الله وذمة محمد النبي على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وتبعهم، وأن لا يغيِّروا مما كانوا عليه ولا يغير حق من حقوقهم ولا ملتهم، ولا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا وافه عن وفهيته، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وليس عليهم ريبة ولا دم جاهلية، ولا يحشرون ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقاً فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين، ومن أكل ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة، ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر، وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله حتى يأتي الله بأمره، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير منقلبين بظلم" شهد أبو سفيان بن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف، والأقرع بن حابس الحنظلي، والمغيرة بن شعبة. وكتب.

يعلمون أنه رسول الله ولكن يمنعهم الكبر والحسد:

لما قبضوا كتابهم انصرفوا إلى نجران فتلقاهم الأسقف ووجوه نجران على مسيرة ليلة ومع الأسقف أخ له من أمه وهو ابن عمه من النسب يقال له: بشر بن معاوية وكنيته أبو علقمة، فدفع الوفد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأسقف، فبينا هو يقرؤه وأبو علقمة معه وهما يسيران إذ كبت ببشر ناقته فتعَّس بشرٌ، غير أنه لا يكني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الأسقف عند ذلك: قد تعَّست والله نبياً مرسلاً، فقال بشر: لا جرم والله لا أحل عنها عقداً حتى آتيه، فضرب وجه ناقته نحو المدينة، وثنى الأسقف ناقته عليه فقال له: افهم عني، إنما قلت هذا لتبلغ عني العرب مخافة أن يقولوا: إنا أخذنا حمقة أو نخعنا لهذا الرجل بما لم تنخع به العرب ونحن أعزهم وأجمعهم داراً ! فقال له بشر: لا والله لا أقيلك ما خرج من رأسك أبداً فضرب بشر ناقته وهو مول ظهره للأسقف وهو يقول:

إليك تعدو قلقاً وضينُها *** معترضاً في بطنها جنينها

مخالفا دين النصارى دينها

حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يزل مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى استشهد أبو علقمة بعد ذلك.

ودخل الوفد نجران، فأتى الراهب ابن أبي شمر الزبيدي وهو في رأس صومعة له فقال له: إن نبياً قد بعث بتهامة وإنه كتب إلى الأسقف فأجمع أهل الوادي أن يسيروا إليه شرحبيل بن وداعة وعبد الله بن شرحبيل وجبار بن فيض فيأتونهم بخبره فساروا حتى أتوه فدعاهم إلى المباهلة فكرهوا ملاعنته، وحكَّمه شرحبيل فحكم عليهم حكماً وكتب لهم كتاباً، ثم أقبل الوفد بالكتاب حتى دفعوه إلى الأسقف، فبينا الأسقف يقرؤه وبشر معه حتى كبت ببشر ناقته فتعَّسه، فشهد الأسقف أنه نبي مرسل، فانصرف أبو علقمة نحوه يريد الإسلام. فقال الراهب: أنزلوني وإلا رميت بنفسي من هذه الصومعة، فأنزلوه فانطلق الراهب بهدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها هذا البرد الذي يلبسه الخلفاء والقعب والعصا، وأقام الراهب بعد ذلك يسمع كيف ينزل الوحي والسنن والفرائض والحدود، وأبى الله للراهب الإسلام فلم يسلم، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجعة إلى قومه، وقال: إن لي حاجة ومعاداً إن شاء الله تعالى، فرجع إلى قومه، فلم يعد حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن الأسقف أبا الحارث أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيد والعاقب ووجوه قومه وأقاموا عنده يستمعون ما ينزل الله عليه، فكتب للأسقف هذا الكتاب وللأساقفة بنجران بعده:

"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي إلى الأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ورهبانهم وأهل بيعهم ورقيقهم وملتهم وسوقتهم، وعلى كل ما تحت أيديهم من قليل وكثير، جوار الله ورسوله، لا يغير أسقف من أسقفته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم، ولا مما كانوا عليه، على ذلك جوار الله ورسوله أبدا ما نصحوا وأصلحوا عليهم، غير منقلبين بظالم ولا ظالمين". وكتب المغيرة بن شعبة.2

الرسول يبعث "أمين الأمة" أبا عبيدة بن الجراح إلى نجران:

عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريدان أن يلاعناه قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبياً فلاعنا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال: ((لأبعثن معكم رجلاً أمينا حق أمين)) فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا أمين هذه الأمة)). رواه البخاري.

وممن أرسلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى نجران: المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-، فقد قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى نجران فقالوا لي: ألستم تقرءون يا أخت هارون، وقد كان بين عيسى وموسى ما كان ! فلم أدر ما أجيبهم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: ((ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم)). رواه مسلم، والترمذي، واللفظ له.

وممن أرسلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى نجران أيضاً: علي ابن أبي طالب بعثه لجمع زكاة من أسلم، وأخذ الجزية من النصارى.

خاتمة:

هذه قصة وفد نصارى نجران، فيها من الدلائل والعبر ما يكفي لمن كان له قلب وعقل سليم.. لقد تجلت فيها مكانة هذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وأن الكفرة والنصارى يقرون به ويعلمون أنه الحق، ولكنه منعهم من ذلك داء الحسد والكبر والرياسة والمناصب التي أهلكت كثيراً من البشر عبر التاريخ..

إنها عظات وعبر ينبغي دراستها وإظهارها للناس ليعلم الناس جميعاً أن الإسلام منصور منذ أول وهلة، وأن الجاهلية مهزومة حين يظهر عليها نور الحق.. فلا تقدر أن تقف في وجهه برهة من الزمن.. وهل أدل على ذلك من خوف النصارى من المباهلة واللعنة على النفس والأهل، فقد تراجعوا إلى الوراء وإلى أبد الدهر..

وصدق الله العظيم إذ يقول:  {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (33) سورة التوبة.


 


1 أي يلومك ويعاتبك على حكمي.

2 ذكر كل ما سبق ابن القيم في كتابه (زاد المعاد)، وابن كثير في كتابه (السيرة النبوية)، نقلاً عن محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى.