بادروا قبل أن تغادروا

بادروا قبل أن تغادروا

 

الحمد لله غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكريم الوهاب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله والأصحاب، ثم أما بعد:

فإن المؤمن ليس بمعصوم من الخطيئة، وليس في منأى عن الهفوة، وليس في معزل عن الوقوع في الذنب فقد ورد عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم))1.

وكم من مذنب طال أرقه، واشتد قلقه، وعَظُمَ كمده، واكتوى كبده، يلفه قتار المعصية، وتعتصره كآبة الخطيئة، يلتمس نسيم رجاء، ويبحث عن إشراقة أمل، ويتطلع إلى صبح قريب يشرق بنور التوبة والاستقامة، والهداية والإنابة؛ ليذهب معها اليأس والقنوط، وتنجلي بها سحائب التعاسة والخوف، والهلع والتشرد والضياع، وإن الشعور بوطأة الخطيئة، والإحساس بآلام الجريرة، والتوجع للعثرة، والندم على سالف المعصية، والتأسف على التفريط، والاعتراف بالذنب؛ هو سبيل التصحيح والمراجعة، وطريق العودة والأوبة والبدار إلى الله بالتوبة النصوح.

بادروا قبل أن تغادروا {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}2، {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}3.

بادروا بالتوبة والإنابة تجدون رباً عظيماً، وإلهاً قريباً، يغفر الذنب، ويقبل التوبة، ويعفو عن الخطيئة فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((قال الله: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة))4، وعن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله – عز وجل -: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة))5، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((بادروا بالأعمال، فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا))6.

وكان الحسن يقول في موعظة: "المبادرة المبادرة، فإنما هي الأنفاس لو حُبِسَت انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله – عز وجل -، رحم الله امرءاً نظر إلى نفسه وبكى على عدد ذنوبه، ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا}))7، وقال أيضاً: "يتوسد المؤمن ما قدم من عمله في قبره، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فاغتنموا المبادرة رحمكم الله في المهلة"8، وقال بعضهم: "اغتنم تنفس الأجل، وإمكان العمل، واقتطع ذكر المعاذير والعلل، فإنك في أجل محدود، ونفس معدود، وعمر غير ممدود"، وقال آخر: "اعمل عمل المرتحل، فإن حادي الموت يحدوك ليوم ليس يعدوك، فيطرحك في حفرة لا يخافك فيها أحد ولا يرجوك"، وكتب رجل إلى بعض إخوانه: "أما بعد: فإن الدنيا حلم، والآخرة يقظة، والموت متوسط بينهما، ونحن في أضغاث أحلام والسلام".

وكتب محمد بن يوسف إلى أخٍ له: "سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإني محذرك من دار منقلبك إلى دار إقامتك، وجزاء أعمالك، فتصير في باطن الأرض بعد ظهرها، فيأتيك منكر ونكير فيقعدانك فينتهرانك، فإن يكن الله معك فلا فاقة، ولا حاجة، ولا بأس، ولا وحشة، وإن يكن غير ذلك فأعاذني الله وإياك يا أخي من سوء المصرع، وضيق المضجع، ثم تبلغك صيحة النشور، ونفخة الصور، وقيام الخلائق لفصل القضاء، وامتلأت الأرض بأهلها، والسموات بسكانها، فباحت الأسرار، وسعرت النار، ووضعت الموازين، ونشرت الدواوين {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}9، فكم من مفتضح، ومستور، ومعذب، ومرحوم، وكم من هالك وناج، فيا ليت شعري ما حالي وحالك يومئذ،  فإن في هذا ما هدم اللذات، وسلى عن الشهوات، وقصر من الأمل، وأيقظ النائم ونبه الغافل"10.

فالمبادرة المبادرة بالعمل، والعجل العجل قبل هجوم الأجل، قبل أن يصير المحبوس في حفرته بما قدم من عمل، ويحول الموت بين المؤمل وبلوغ الأمل عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: ((خطبنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصلوا الذي بينه وبين ربكم بكثرة ذكركم له، وكثرة الصدقة في السر والعلانية؛ ترزقوا وتنصروا وتجبروا))11.

يا من ظلمة قلبه كالليل إذا يسري؛ أما آن لقلبك أن يستلين.

اللهم ألهمنا ذكرك، ووفقنا للقيام بحقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك يا خير من دعاه داع، وأفضل من رجاه راج، يا قاضي الحاجات، ومجيب الدعوات، هب لنا ما سألناه، وحقق رجاءنا فيما تمنيناه، يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ما في ضمائر الصامتين، أذقنا برد عفوك، وحلاوة مغفرتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله أجمعين.


 


1 رواه مسلم برقم (2749).

2 سورة النور (31).

3 سورة آل عمران (133).

4 رواه الترمذي برقم (3540)، وقال الشيخ الألباني: صحيح.

5 رواه مسلم برقم (2687).

6 رواه مسلم برقم (118).

7 مريم (84).

8 اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (1/97).

9 سورة الزمر (69).

10 اغتنام الأوقات في الباقيات الصالحات قبل هجوم هام اللذات عبد العزيز السلمان.

11 سنن ابن ماجه برقم (1081)، وقال الشيخ الألباني: ضعيف.