الأماكن التي لا تجوز الصلاة فيها

الأماكن التي لا تجوز الصلاة فيها

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

فلأهمية الصلاة كان لا بد فيها من طهارة المكان الذي تفعل فيه، وقد ورد في السنة أن النبي  نهى عن الصلاة في عدة أماكن نجملها أولاً، ثم نتكلم على كل مسألة على حدة، وهذه الأماكن هي:

1- في الأرض المغصوبة.

2- المقبرة.

3- المزبلة.

4- المجزرة.

5- معاطن الإبل.

6- الحمام والحش.

7- قارعة الطريق.

8- فوق الكعبة.

9- الكنيسة.

ثم نفصل كل مسألة كالتالي:

المسألة الأولى: الصلاة في الأرض المغصوبة:

مذهب الأحناف: أن الصلاة في الأرض المغصوبة تقع فرضاً، وإنما الحرام شغل المكان المغصوب لا من حيث كون الفعل صلاة1، أما مذهب المالكية: فحكم “الصَّلاةِ فِي الأرْضِ الْمَغْصُوبَةِ الحرمة فيها لأمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِ الْعِبَادَةِ”2، وفي مذهب الشافعية: تصح الصلاة في الأرض المغصوبة3 حيث قال الإمام النووي – رحمه الله -: “الصلاة في الأرض المغصوبة حرام بالإجماع، وصحيحة عندنا، وعند الجمهور من الفقهاء، وأصحاب الأصول، وقال أحمد بن حنبل، وكذا الجبائي وغيره من المعتزلة: باطلة، واستدل عليهم الأصوليون بإجماع من قبلهم، قال الغزالي في المستصفى: “هذه المسألة قطعية ليست اجتهادية، والمصيب فيها واحد، لأن من صحح الصلاة أخذه من الإجماع، وهو قطعي، ومن أبطلها أخذه من التضاد الذي بين القربة والمعصية، ويدعي كون ذلك محالاً بالعقل، فالمسألة قطعية، ومن صححها يقول: هو عاص من وجه، متقرب من وجه، ولا استحالة في ذلك، إنما الاستحالة في أن يكون متقرباً من الوجه الذي هو عاص به”، وقال القاضى أبو بكر بن الباقلانى: “يسقط الفرض عند هذه الصلاة لا بها، بدليل الإجماع على سقوط الفرض إذا صلى، واختلف أصحابنا هل في هذه الصلاة ثواب أم لا؟ ففي الفتاوى التي نقلها القاضى أبو منصور أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الواحد عن عمه أبى نصر بن الصباغ صاحب الشامل – رحمه الله – قال: “المحفوظ من كلام أصحابنا بالعراق أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة، يسقط بها الفرض، ولا ثواب فيها”، قال القاضي أبومنصور: “ورأيت أصحابنا بخراسان اختلفوا، منهم من قال: لا تصح صلاته، قال: وذكر شيخنا – يعني ابن الصباغ – في كتابه الكامل أنا إذا قلنا بصحة الصلاة ينبغي أن يحصل الثواب، فيكون مثاباً على فعله، عاصياً بمقامه، قال القاضى: وهذا هو القياس إذا صححناها”4.

أما مذهب الحنابلة: فإن الصلاة لا تصح فيها لحرمة لبثه فيها، وقيل تحرم، واختاره الخلال، والباقون وفاقاً أي وفاقاً للأئمة الثلاثة لحديث: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً))5 متفق عليه، وقال أحمد: “تصلي الجمعة في موضع الغصب أي إذا كان المسجد مغصوباً، وإذا صلى الإمام فيه فامتنع الناس من الصلاة فيه فاتتهم”6، وفي فتاوى الأزهر: “أن الصلاة في الأرض المغصوبة حرام بالإجماع، وأن اختلاف الفقهاء إنما هو في صحتها، والثواب عليها”7.

وقال الشوكاني – رحمه الله – عن حكمها: “الصَّلاةُ فِي الأرْضِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّهَا مُجْزِئَةٌ، مُسْقِطَةٌ لِلْقَضَاءِ، وَلَكِنْ لَا ثَوَابَ فِيهَا، كَذَا قَالَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا، قَالُوا: فَصَلَاةُ الْفَرْضِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ إذَا أَتَى بِهَا عَلَى وَجْهِهَا الْكَامِلِ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا شَيْئَانِ: سُقُوطُ الْفَرْضِ عَنْهُ، وَحُصُولُ الثَّوَابِ، فَإِذَا أَدَّاهَا فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ حَصَلَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي”8.

المسألة الثانية: الصلاة في المقبرة:

ومذهب الحنفية: “كراهة الصلاة في المقبرة لأن النبي  نَهَى عَنْ الصَّلاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ”9، والنهي من النبي – عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ – كان لعلة احتمال وجود النجاسة10، أما مذهب المالكية فقد “أَجَازَ مَالِكٌ الصَّلاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ، وَفِي الْحَمَّامِ إذَا كَانَ مَوْضِعُهُ طَاهِراً، وقال ابْنُ الْقَاسِمِ: حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلاةِ بِالْمَقْبَرَةِ تَأْوِيلُهُ مَقْبَرَةُ الْمُشْرِكِينَ، قال ابْنُ يُونُسَ: قَالَ غَيْرُهُ: كَانَتْ دَارِسَةً، أَوْ حَدِيثَةً؛ لأنَّهَا حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ، وَجاء فِي الرِّسَالَةِ: “وَنَهَى عَنْ الصَّلاةِ فِي مَقْبَرَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَنَائِسِهِم”11.

وفي مذهب الشافعية قال الإمام النووي – رحمه الله -: “فإن تحقق أن المقبرة منبوشة لم تصح صلاته فيها بلا خلاف إذا لم يبسط تحته شيء، وإن تحقق عدم نبشها صحت بلا خلاف، وهي مكروهة كراهة تنـزيه، وإن شك في نبشها فقولان أصحهما: تصح الصلاة مع الكراهة12، والثاني: لا تصح”، هكذا ذكر الجمهور الخلاف في المسألة الأخيرة قولين كما ذكره المصنف هنا، وممن ذكرهما قولين الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب في تعليقه، والمحاملي، والشيخ أبو علي البندنيجى، وصاحب الشامل، وخلائق من العراقيين، ومعظم الخراسانيين، ونقلهما جماعة وجهين منهم المصنف في التنبيه، وصاحب الحاوي قال في الحاوي: القول بالصحة هو قول ابن أبي هريرة، وبالبطلان قول أبى إسحاق، والصواب طريقة من قال “قولان”، قال صاحب الشامل: قال في الأم: تصح، وقال في الإملاء: لا يصح، واتفق الأصحاب على أن الأصح الصحة، وبه قطع الجرجاني في التحرير، قال أصحابنا: “ويكره أن يصلى إلى القبر” هكذا قالوا: “يكره”، ولو قيل: “يحرم” لحديث أبي مرثد وغيره مما سبق لم يبعد، قال صاحب التتمة: “وأما الصلاة عند رأس قبر رسول الله  متوجهاً إليه فحرام، قال ابن المنذر: “روينا عن علي وابن عباس وابن عمر وعطاء النخعي أنهم كرهوا الصلاة في المقبرة، ولم يكرهها أبو هريرة، وواثلة بن الأسقع، والحسن البصري”13.

أما مذهب الحنابلة فيذكر ابن قدامه – رحمه الله تعالى -: “اختلفت الرواية عن أحمد – رحمه الله فروي عنه: أن الصلاة لا تصح في المقبرة بحال، رويت كراهة الصلاة في المقبرة عن علي وابن عباس وابن عمر وعطاء والنخعي وابن المنذر، وممن قال لا يصلي في مبارك الإبل ابن عمر وجابر بن سمرة والحسن ومالك واسحاق وأبو ثور.

وعن أحمد أن الصلاة في هذه صحيحة ما لم تكن نجسة، وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة لقوله : جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وفي لفظ: فحيثما أدركتك الصلاة فصلِّ فإنه مسجد14 رواه مسلم، ولأنه موضع طاهر، فصحت الصلاة فيه كالصحراء، والأولى ظاهر المذهب لقول النبي : الأرض كلها مسجد إلا الحمام، والمقبرة رواه أبو داود”15، وقال صاحب الإنصاف: “وَلا تَصِحُّ الصَّلاةُ فِي الْمَقْبَرَةِ….. هَذَا الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ الأصْحَابُ، وَعَنْهُ إنْ عَلِمَ النَّهْيَ لَمْ تَصِحَّ، وَإِلا صَحَّتْ، وَعَنْهُ تَحْرُمُ الصَّلاةُ فِيهَا، وَتَصِحُّ، قَالَ الْمَجْدُ: لَمْ أَجِدْ عَنْ أَحْمَدَ لَفْظاً بِالتَّحْرِيمِ مَعَ الصِّحَّةِ، وَعَنْهُ تُكْرَهُ الصَّلاةُ فِيهَا، وَقِيلَ: إنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ صَحَّتْ، وَقِيلَ: إنْ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ لَمْ يُصَلِّ فِيهِ بِحَالٍ وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ لْقَاعِدَةِ: لا تَصِحُّ الصَّلاةُ فِي مَوَاضِعِ النَّهْيِ – عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ -، وَتَصِحُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيه، هَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ يَحْكِي الْخِلَافَ فِي الصِّحَّةِ، مَعَ الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ”16.

المسألة الثالثة: الصلاة في المزبلة، والمجزرة، ومعاطن الإبل، والحمام، والحش:

ذهب الأحناف إلى النَّهْيِ عَنْ الصَّلاةِ فِي الْمَزْبَلَةِ، وَالْمَجْزَرَةِ؛ لِكَوْنِهِمَا مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ، وَأَمَّا مَعَاطِنُ الإِبِلِ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ مَعْنَى النَّهْيِ فِيهَا أَنَّهَا لا تَخْلُو عَنْ النَّجَاسَاتِ عَادَةً، لَكِنَّ هَذَا يُشْكِلُ بِمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ: صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَلا تُصَلُّوا فِي مَعَاطِنِ الإبِلِ مَعَ أَنَّ الْمَعَاطِنَ وَالْمَرَابِضَ فِي مَعْنَى النَّجَاسَةِ سَوَاءٌ، وَقِيلَ: مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّ الْإِبِلَ رُبَّمَا تَبُولُ عَلَى الْمُصَلِّي فَيُبْتَلَى بِمَا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، وَهَذَا لا يُتَوَهَّمُ فِي الْغَنَم”17.

ومذهب المالكية: “النهي عن المجزرة، والمزبلة؛ نَهْيُ كَرَاهَةٍ إنْ لَمْ يُؤْمَنْ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَإِلا إنْ أُمِنَتْ مِنْ النَّجَسِ جَازَتْ، وَحَيْثُ قِيلَ بِالْكَرَاهَةِ، وَصَلَّى فِيهَا؛ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ عَلَى الْمَشْهُورِ عَامِداً أَوْ غَيْرَهُ”18.

أما مذهب الشافعية: فقد قال صاحب كتاب فقه العبادات: “تكره الصلاة محاذياً للنجاسة ولو لم يتصل بها كالصلاة في المزبلة، والمجزرة”19، وقال النووي – رحمه الله -: “وذكر المجزرة، والمزبلة، وإنما منع من الصلاة فيهما للنجاسة، فدل على أن طهارة الموضع الذي يصلي فيه شرط، فإن صلى على بساط وعليه نجاسة غير معفو عنها، فإن صلى على الموضع النجس منه لم تصح لأنه ملاق للنجاسة، وإن صلى على موضع طاهر منه صحت صلاته لأنه غير ملاق للنجاسة”20، وقال صاحب مغني المحتاج: “تكره الصلاة في الأسواق، والرحاب الخارجة عن المسجد، وفي الحمام ولو في مسلخه لحديث صحيح أسنده ابن حبان: الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام21، واختلف في علة النهي على أقوال أصحها: لأنه مأوى الشياطين، وقيل: خوف النجاسة، وقيل: لاشتغال المصلي بدخول الناس، وقيل غير ذلك، وفي المزبلة بفتح الباء وضمها: موضع الزبل ونحوه كالمجزرة وهي موضع ذبح الحيوان، ومحل ذلك ما إذا بسط طاهراً، وصلى عليه، وإلا لم تصح لأنه مصل على نجاسة، وإنما تكره على الحائل إذا كانت النجاسة محققة، فإن بسطه على ما غلبت فيه النجاسة لم تكره على لضعف ذلك الحائل، وفي عطن الإبل ولو طاهراً وهو الموضع الذي تنحى إليه الإبل الشاردة ليشرب غيرها، فإذا اجتمعت سيقت منه إلى المرعى لقوله: صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل، فإنها خلقت من الشياطين رواه ابن ماجة، وصححه ابن حبان، ولنفارها المشوش للخشوع، والمرابض المراقد، فلا تكره الصلاة فيها، والفرق بين الإبل والغنم بأن خوف نفار الإبل يذهب الخشوع بخلاف الغنم، ولا تختص الكراهة بالعطن بل مأواها ومقيلها ومباركها، بل مواضعها كلها كذلك، والكراهة في العطن أشد من مأواها لأن نفارها في العطن أكثر لازدحامها ذهاباً وإياباً، والبقر كالغنم، ومعلوم أن أماكن المواشي مطلقاً إن تنجست لم تصح الصلاة فيها بلا حائل، وتصح بالحائل مع الكراهة، لكن الكراهة في موضع الغنم ونحوها لمحاذاة النجاسة كما مرَّ، وفي موضع الإبل لذلك ولما مرَّ”22.

ومذهب الحنابلة: ما قاله ابن قدامة المقدسي – رحمه الله -: “وذكر بعض أصحابنا مع هذه المواضع المزبلة، والمجزرة، ومحجة الطريق، وظهر بيت الله الحرام، والموضع المغصوب؛ لما روى ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله  قال: سبع مواطن لا تجوز فيها الصلاة: ظهر بيت الله، والمقبرة، والمزبلة، والمجزرة، والحمام، وعطن الإبل، ومحجة الطريق23رواه ابن ماجة”24، ولم يفرق الحنابلة في الحمام بين مكان الغسل وصب الماء وبين بيت المسلخ الذي ينزع فيه الثياب والأتون، وكل ما يغلق عليه باب الحمام لتناول الاسم له، وأما المعاطن فقال أحمد: هي التي تقيم فيها الإبل، وتأوي إليها، وقيل هي المواضع التي تناخ فيها إذا وردت.

ويكره أن يصلي إلى هذه المواضع، فإن فعل صحت صلاته نص عليه أحمد في رواية أبي طالب، وقد سئل عن الصلاة إلى المقبرة، والحمام، والحش قال: لا ينبغي أن يكون في القبلة قبر، ولا حش، ولا حمام، فإن كان يجزئه، وقال أبو بكر: يتوجه في الإعادة قولان أحدهما: لموضع النهي، والثاني: يصح لأنه لم يصل في شيء من المواضع المنهي، وإن صلى على سطح الحش أو الحمام أو عطن الإبل أو غيرها فذكر القاضي أن حكمه حكم المصلي فيها، لأن الهواء تابع للقرار، فيثبت فيه حكمه، ولذلك لو حلف لا يدخل داراً فدخل سطحها حنث، ولو خرج المعتكف إلى سطح المسجد كان له ذلك لأن حكمه حكم المسجد، والصحيح إن شاء الله قصر النهي على ما تناوله، وأنه لا يعدى إلى غيره، لأن الحكم إن كان تعبدياً فالقياس فيه ممتنع، وإن علل فإنما يعلل بكونه للنجاسة، ولا يتخيل هذا في سطحها والله أعلم”25.

والعلة في النهي عن الصلاة في هذه المواضع هي كون هذه المواضع مظان للنجاسات، فعلق الحكم عليها وإن لم توجد الحقيقة، كما انتقضت الطهارة بالنوم، ووجب الغسل بالتقاء الختانين، والصحيح جواز الصلاة فيها وهو قول أكثر أهل العلم، ولعموم قوله : جعلت لي الأرض مسجداً متفق عليه، واستثنى منه المقبرة، والحمام، ومعاطن الإبل بأحاديث صحيحة، ففيما عدا ذلك يبقى على العموم، وحديث ابن عمر يرويه العمري، وزيد بن جبرة، وقد تكلم فيهما من قبل حفظهما، فلا يترك به الحديث الصحيح”26، “ولأن قارعة الطريق، والمجزرة، والمزبلة؛ مظان للنجاسة أشبهت الحش، والحمام”27، ولا تصح الصلاة في المجزرة، والمزبلة، والحش، وأعطان الإبل، وقارعة الطريق، والحمام لما روى ابن ماجه والترمذي وعبد بن حميد في مسنده عن ابن عمر أن النبي : نهى أن يصلى في سبع مواطن: المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله(28)، وأما الحش فلاحتمال النجاسة، ولأنه لما منع الشرع من الكلام، وذكر الله فيه؛ كان منع الصلاة أولى(29).

المسألة الرابعة: الصلاة في قارعة الطريق:

الصلاة في قارعة الطريق مكروهة عند الشافعية30، والحنفية31، والمالكية32، فإن صلى فيه صحت صلاته، لأن المنع لترك الخشوع، أو لمنع الناس من الطريق، وذلك لا يوجب بطلان الصلاة33، وروي عن مالك الجواز34، والعلة في النهي عن الصلاة في قارعة الطريق فلما فيها من شغل الخاطر المؤدي إلى ذهاب الخشوع الذي هو سر الصلاة35. وقالت الحنابلة: “لا تصح صلاة في قارعة الطريق أي محل قرع الأقدام من الطريق وهي المحجة سواء كان فيها سالك أو لا لحديث ابن عمر المتقدم”36، وقيل: الصلاة في قارعة الطريق تصح مع التحريم، وذلك لأن النهي لمعنى في غير الصلاة لحديث ابن عمر  المتقدم، ولحديث: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فحيثما أدركتك الصلاة فصل 37 متفق عليه، وذلك لأنها مظنة النجاسة38.

المسألة الخامسة: الصلاة فوق الكعبة:

وتكره الصلاة عند الشافعية فوق الكعبة، وإنما كرهت الصلاة فوق البيت لهتك حرمته.39

وقال الحنابلة: لا تجوز الصلاة فوق الكعبة لعموم نهيه – عليه الصلاة والسلام –40 أي صلاة الفريضة، وكذا المالكية41، أما إن صلى النافلة في الكعبة، أو على ظهرها، وبين يديه شيء منها، أو في الحجر؛ صحت صلاته لأن النبي  صلى في البيت ركعتين42، ولا تصح الفريضة في الكعبة، ولا فوقها والحجر منها، وإن وقف على منتهاها بحيث لم يبق وراءه شيء منها، أو وقف خارجها، وسجد فيها؛ صحت؛ لأنه غير مستدبر لشيء منها، وتصح النافلة، والمنذورة فيها وعليها باستقبال شاخص منه43.

وتصح الصلاة مع التحريم على ظهر بيت الله الحرام، وفي الكعبة يكون مستدبراً لبعض القبلة، وإن صلى النافلة في الكعبة، أو على ظهرها، وبين يديه شيء منها؛ صحت صلاته لأن النبي  صلى في البيت ركعتين متفق عليه.44

المسألة السادسة: الصلاة في الكنيسة:

تكره الصلاة فيها “عند الجمهور، وابن عباس مطلقاً عامرة، أو دارسه؛ إلا لضرورة كحر، أو برد، أو مطر، أو خوف عدو، أو سبع؛ فلا كراهة، وحكمة الكراهة: أنها مأوى الشياطين لأنها لا تخلو من التماثيل والصور، ولأنها موضع فتنة وأهواء مما يمنع الخشوع.

وقالت الحنابلة: لا بأس بالصلاة في الكنيسة النظيفة، وقد رخص فيها الحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، والشعبي، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وروي عن عمر وأبي موسى الأشعري، واستدلوا: بأن النبي  صلى في الكعبة وفيها صور، وهي داخلة في عموم قوله – عليه الصلاة والسلام -: فأينما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد45، وقال النووي – رحمه الله -: “وتكره الصلاة في مأوى الشياطين كالخمارة، ومواضع المكس، ونحو ذلك من المعاصي الفاحشة”46، وقال صاحب فقه العبادات: “تكره الصلاة في الكنيسة على الصحيح من المذهب”47.

الترجيح: والذي يظهر بعد عرض الأقوال وأدلتهم أن النهي لكراهة التنزيه لأن حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – فيه ضعف، فإن الأصل الطهارة لحديث: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فحيثما أدركتك الصلاة فصل متفق عليه، ولحديث: الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، إلا إذا تيقن نجاسة المكان فإن الصلاة فيه لا تجوز، أما الصلاة في المقبرة – ما عدا صلاة الجنازة – فهي باطلة لا تصح سواءً كانت فريضة أو نافلة، والدليل:

أولاً: قول النبي : الأرض كلها مسجد إلا المقبرة، والحمام48.

ثانياً: قول النبي : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد49.

ثالثاً: وتعليل ذلك هو أن الصلاة في المقبرة قد تتخذ ذريعة إلى عبادة القبور، أو إلى التشبه بمن يعبد القبور، ولهذا لما كان الكفار يسجدون للشمس عند طلوعها وغروبها؛ نهى النبي  عن الصلاة عند طلوعها وغروبها لئلا يُتخذ ذريعة إلى أن تُعبد الشمس من دون الله، أو إلى أن يتشبه بالكفار، وكذلك تحرم الصلاة إلى المقبرة على الصحيح من أقوال أهل العلم، والدليل على التحريم حديث أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : لا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلا تُصَلُّوا إِلَيْهَا50، فهذا يدل على تحريم الصلاة إلى المقبرة، أو إلى القبور، أو إلى القبر الواحد، ولأن العلة من منع الصلاة في المقبرة موجودة في الصلاة إلى القبر، فما دام الإنسان يتجه إلى القبر، أو إلى المقبرة اتجاهاً يُقال إنه يُصلي إليها؛ فإنه يدخل في النهي، وإذا كان داخلاً في النهي فلا يصح لقوله : لا تصلوا، فالنهي هنا عن الصلاة، فإذا صلى إلى القبر فقد اجتمع في فعله هذا طاعة لله بفعله الصلاة، ومعصية لمخالفة نهي النبي ، وهذا لا يمكن أن يتقرب إلى الله – تعالى – به.

والله أعلم وأحكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه.


1 حاشية رد المحتار (2/502)؛ ورد المحتار (8/107).

2حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/414).

3 شرح الوجيز (12/264)؛ وحاشية البجيرمي على المنهج (5/3).

4 المجموع (3/164).

5 رواه البخاري كتاب التيمم (1/93)؛ ومسلم كتاب المساجد (1/169).

6 منار السبيل شرح الدليل إبراهيم بن محمد ضويان (1/169) مكتبة الرشد ط1 سنة النشر 1418هـ.

7 فتاوى الأزهر (7/164).

8 نيل الأوطار (11/423).

9 تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (1/328).

10 تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (1/332).

11 التاج والإكليل لمختصر خليل (1/345).

12 تحفة المحتاج في شرح المنهاج (6/495).

13 المجموع (3/158).

14 رواه مسلم برقم (520).

15 الشرح الكبير لابن قدامة (1/478).

16 الإنصاف (2/288).

17 بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/472).

18 حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني (2/6)؛ وانظر شرح مختصر الخليل للخراشي (3/92).

19 فقه العبادات – شافعي (1/331).

20 المهذب (1/116).

21 أخرجه الإمام أحمد (3/83)، وأبو داود (1/114) كتاب الصلاة باب المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة، والترمذي (2/131) كتاب الصلاة باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، وابن ماجه (1/246) كتاب المساجد باب المواضع التي تكره فيها الصلاة برقم (745)؛ وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (606).

22 مغني المحتاج (1/200).

23 أخرجه الترمذي كتاب الصلاة باب كراهة ما يصلي إليه (2/177,178) رقم (346)؛ وابن ماجة، كتاب المساجد، باب المواضع التي تكره فيها الصلاة (1/246) رقم (746)، وفي إسناده زيد بن جبيرة قال الحافظ في التقريب: متروك (1/273).

24 المغني (1/753).

25 المغني (1/754).

26 الشرح الكبير (1/514).

27 الكافي في فقه ابن حنبل (1/219).

28 أخرجه الترمذي كتاب الصلاة باب كراهة ما يصلي إليه (2/177-178) رقم (346)؛ وابن ماجة كتاب المساجد باب المواضع التي تكره فيها الصلاة (1/246) رقم (746)، وفي إسناده زيد بن جبيرة قال الحافظ في التقريب: متروك (1/273).

29 منار السبيل (1/53).

30 مغني المحتاج (1/200)؛ فقه العبادات – شافعي (1/331).

31 مراقي الفلاح (1/154)؛ حاشية الطحاوي على المراقي (2/351)؛ فقه العبادات – حنفي (1/91).

32 المدونة الكبرى (1/182)؛ بداية المجتهد (1/190) روي الجواز عنه وهذه رواية ابن القاسم؛ أشرف المسالك (1/50).

33 المهذب (1/116).

34 فقه العبادات – مالكي (1/137).

35 نيل الأوطار (2/142).

36 شرح منتهى الإرادات (1/163)؛ ومنار السبيل (1/53)؛ ودليل الطالب (1/53)؛ فقه العبادات – حنبلي (1/157).

37 سبق تخريجه.

38 الكافي في فقه ابن حنبل (1/219)؛ وفقه العبادات – حنبلي (1/157).

39 مغني المحتاج (1/200).

40 المغني (1/753)؛ فقه العبادات – حنبلي(1/157).

41 الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (2/983).

42 فقه العبادات – حنبلي (1/157).

43 الروض المربع (1/154).

44 الكافي في فقه ابن حنبل (1/110).

45 تقدم تخريجه هامش رقم (14).

46 انظر الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (2/981) ؛ والشرح الكبير (1/512)؛ والمغني (1/759).

47 فقه العبادات – حنبلي (1/157).

48 رواه الترمذي (317)؛ وابن ماجه (745)؛ وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (606).

49 رواه البخاري برقم (435)؛ ومسلم برقم (529).

50 رواه مسلم رقم (972).