انتهى العام وبدأ

انتهى العام وبدأ

 

أما بعد: إن الحمد لله نحمده – تعالى – ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه، فصلوات الله عليه في الأولين، وصلوات الله عليه في الآخرين، وصلوات الله عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}1، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}2، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}3، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}4.

أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار – أعاذني الله وإياكم من كل ضلالة تهوي بصاحبها إلى النار -.

معاشر المؤمنين: أنتم على مشارف عام هجري جديد، وتوديع عام هجري مضى وانقضى، تصرمت أيامه، وذهبت لياليه، وغابت شمسه، قد آذن بالرحيل ليشهد لنا أو علينا بما أودعناه من أعمال، فالسعيد فيه من أعمره بالطاعات، والإكثار من الخيرات، والعلو في الدرجات.

تمرُّ الشهور بعد الشهور، والأعوام بعد الأعوام، وإن في مرورها لعبرةً وعظة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وهاأنتم تزلفون إلى عام جديد، وتودّعون عاماً من عمركم، مضى بما أودعتموه من عمل، فاتقوا الله أيها الناس، وتبصروا في هذه الأيام والليالي؛ فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة حتى تنتهوا إلى آخر سفركم، وكل يوم يمرُّ بكم فإنه يبعدكم عن الدنيا، ويقربكم من الآخرة، فطوبى لعبد اغتنم هذه الأيام بما يقربه إلى الله، طوبى لعبد شغلها بالطاعة واتعظ بما فيها من العظات: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}5.

عباد الله: لعل جمعتكم هذه هي آخر جمعة من هذا العام الهجري، فهنيئاً لمن أحسن فيه واستقام، وويل لمن أساء وارتكب الإجرام، فهلم نتساءل عن هذا العام: كيف قضيناه؟ ولنفتش كتاب أعمالنا: كيف أمليناه؟ فإن كان خيراً حمدنا الله وشكرناه، وإن كان شراً تبنا إلى الله واستغفرناه، وإنه لحري بالمسلم أن يحاسب نفسه، بل على المجتمع أن يحاسب نفسه، وعلى الأمة جميعاً أن تحاسب نفسها، وتقف مع نفسها وقفات ومراجعات، كم يتمنى المرء تمام شهره وهو يعلم أن ذلك يُنقِص من عمره، وأنها مراحل يقطعها من سفره، وصفحات يطوِيها من دفتره، وخطوات يمشيها إلى قبره، فهل يفرح بذلك إلا من استعدّ للقدوم إلى ربه بامتثال أمره، واجتناب نهيه؟!

أيها الناس: حاسبوا أنفسكم اليوم فأنتم أقدر على العلاج منكم غداً، فإنكم لا تدرون ما يأتي به الغد، حاسبوها في ختام عامكم، وفي جميع أيامكم، فإنها خزائنكم التي تحفظ لكم أعمالكم، وعما قريب تفتح لكم فترون ما أودعتم فيها قال أبو بكر الصديق – رضي الله عنه -: "إنكم تغدون وتروحون إلى أجل قد غيِّب عنكم عِلمه، فإن استطعتم أن لا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا"، وقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: "أيها الناس حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}6.

وفكَّر أحد الصالحين ذات مرة فجلس مع نفسه يحاسبها فقال: كم عمري الآن؟ فتذكر أنه ابن ستين سنة، فأخذ يحسب أيامها فإذا هي واحد وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم، فقال يحاسب نفسه: ويلتا أألقى الله بواحد وعشرين ألفاً وخمسمائة ذنب؟! هذا على فرض أن الإنسان يذنب ذنباً واحداً كل يوم فقط، كيف وفي كل يوم عشرات الذنوب؟ فجعل يبكي ويبكي حتى سقط مغشياً عليه ميتاً – رحمه الله -، فلما مات سمعوا من يقول: يا لها من ركضة إلى الفردوس الأعلى!

نسير إلَى الآجال في كل لحظة               وأيـامنا تطوى وهنّ مراحل

ترحل من الدنيا بزاد من التقى               فعمـرك أيـام وهنّ قلائـل

عباد الله: لقد كانت هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – معلماً بارزاً، وحدثاً هاماً في الإسلام، وكان تحولاً جذرياً في طرائق الدعوة، والتعامل مع المعارضين لها، ولقد كانت الهجرة مقدمة لنصر عظيم للإسلام وأهله، بلغ قبل نهاية المئة الأولى منها أكثر من ثلث الأرض، ولأجل هذه المكانة للهجرة كان رأي عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سديداً إذ جعلها تاريخاً لهذه الأمة، تضبط به أحداثها، ويسجل فيه مجدها وعزها، ويكون شعاراً لها في كل حين، في العبادات والمعاملات، والأحوال الشخصية وغير ذلك من الأمور، وكان ذلك في السنة السابعة عشر من الهجرة حيث جمع عمر – رضي الله عنه – الصحابة، واستشارهم في وضع تاريخ يعرفون به أمورَهم، فأشير عليه بالتأريخ بمبعث النبي وبموته وبهجرته، فاختار عمر الهجرة، فاتفقوا معه على ذلك، ثم استشارهم في أي شهر نبدأ؟ فقال بعضهم: من رمضان، وقال آخرون: من ربيع الأول، وقال بعضهم: من المحرم، فاختار المحرم، وأجمعوا عليه؛ لأنه يلي ذا الحجة، وهو الشهر الذي بايع فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – الأنصار على الهجرة، وتلك المبايعة من مقدمات الهجرة، فكان أولى الشهور بالأولية شهر المحرم.

عباد الله: وإن مما يؤسف له أن لا يَقْدُرَ بعض المسلمين لهذا التاريخ قدره، وأن يستبدلوا به تاريخاً آخر، بأن يجعلوه معتمداً في معاملاتهم كافة، وهذا خطر عظيم ربما غُفِلَ عنه، فإن التاريخ الميلادي لا يمكن أن يحل محل التاريخ الهجري لما بينهما من تباين يمس الدين والهوية، ولأنَّ التاريخ الهجري تاريخ مرتبط بالدين وُضِع من أجله، فبالأشهر القمرية تربط أحوال الزكاة، وآجال الديون والرهان، وعدد الطلاق ومُدد الحداد والإيلاء وغير ذلك؛ ولذا قال – تعالى -: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}7، ومن حكمة ذلك أن الشهر القمري ظاهر للناس كافة، معلوم وقت دخوله ووقت خروجه، يعرفه المتعلم والأمي، والذي في الحاضرة بين الناس والذي في البادية مع ماشيته، وهذا من رحمة الله، وتيسيره لعباده، أما الميلادي فإنه مرتبط بدينين باطلين، أولهما وثنية الرومان، فإن الأشهر الغربية يناير وفبراير تمجيد للآلهة الأسطورية للرومان، ولاثنين من القادة المحبوبين الرومانيين، فيناير: مأخوذ من "يانوس" إله الشمس، ومارس: اسم إله الحرب، ومايو: اسم إلَهَة الخصب، ويونيو: اسم إلَهَة القمر، أما يوليو: فهو اسم للقيصر كاليوس يوليوس، وكذا أغسطس اسم أحد القياصرة، والأشهر التي تحمل أسماء الآلهة المزعومة والقادة المحبوبين جعلوا أيامها تكتمل إلى واحد وثلاثين يوماً من باب التفاؤل، والأخرى تحمل ثلاثين يوماً لأنهم يتشاءمون من الأعداد الزوجية، أما أغسطس فإنه الشهر الثامن وكان ثلاثين يوماً، ولكنهم جعلوه واحداً وثلاثين يوماً لكي لا يشعر "أغسطس" أنه أقل منزلة من يوليوس.

أما الأشهر الشرقية: مثل كانون، ونيسان، وتموز؛ فإنها كانت أشهر التقويم السرياني الذي اندثر قبل ثلاثة قرون تقريباً، إلا أن أسماء الشهور بقيت وربطت بأسماء الشهور الغربية، ويحمل أحد هذه الأشهر وهو تموز: اسم إله بابلي يموت ثم يعود، وأيلول: معناه النوح؛ إذ ينوحون فيه على الإله الميِّت، أما نيسان: فهو مستهل السنة الدينية المقدسة عند البابليين.

أما الدين الآخر الذي ارتبط به هذا التأريخ فهو النصرانية، فقد اعتمدوا التقويم الروماني بعد اجتماع للمجمع الكنسي أقرَّ فيه الاعتماد عليه، ثم ربط بعد ذلك بميلاد المسيح – عليه السلام -، وذلك في القرن السادس أو الثامن من ميلاده، ومن هنا نعلم أن نسبة هذا التاريخ إلى ميلاد المسيح جاءت متأخرة جداً عن ميلاده، كما أنها غير دقيقة، كما أن بعضهم ينسبها إلى موته وليس ولادته وهذا مخالف لكلام الله – تعالى -: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً}8.

عباد الله: من هنا عرفنا أن هذا التقويمَ وضعي، غيرُ مبني على أساس كوني في تقسيم شهوره، بل إن القياصرة والبابوات تغير فيه حسب ما ترى، ولذا لما قصرت الأيام اختاروا فبراير مكاناً للنقص فكان ثمانية وعشرين يوماً في السنوات البسيطة، بخلاف التقويم الإسلامي المربوط بظاهرة كونية يدركها كل الناس قال – تعالى -: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}9.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة…

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن من أكبر الجنايات على الهوية الإسلامية أن يستبدل بتاريخها الديني تاريخاً أجنبياً عن دينها وثقافتها، بل ذلك امتداد لطمس هذه الهوية، والارتماء في أحضان التبعية، فإن في الاعتزاز بالثوابت والموروثات الدينية والثقافية – والتي منها التاريخ الهجري – إبقاء على كيان الأمة، وهذا ما لم يُرضِ أعداءها، ومن أجل هذا سعوا إلى زعزعة تلك الموروثات من أكثر من طريق، ومن أظهر تلك الطرق ما كان في حقبة الاستعمار، وكان أول ما اعتمد التاريخ الإفرنجي إلى جانب التاريخ الهجري في مصر عام 1292هـ، وذلك قبل الاحتلال البريطاني بسبع سنواتٍ فقط.

معاشر المؤمنين: لنتذكر بانقضاء العام انقضاء العمر، وبسرعة مرور الأيام قرب الموت، وبتغير الأحوال زوال الدنيا وحلول الآخرة، فكم ولِد في هذا العام من مولود، وكم مات من حي، وكم استغنى فيه من فقير، وافتقر من غني، وكم عزَّ فيه من ذليل، وذلَّ فيه من عزيز، كم من قريب لنا وخليل وصاحب افتقدناه هذا العام، وأفضى إلى ما قدم وعمل!

معاشر الإخوة: والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتخبرنَّ بما كنتم تعلمون، فجنةٌ للمطيعين، ونار جهنم للعاصين {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}10.

عباد الله: من غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، واشتدّت عليه حسراته، وأي حسرة على العبد أعظم من أن يكون عمره عليه حجة، وتقوده أيامه إلى المزيد من الردى والشقوة؟ إن الزمان وتقلباته أنصح المؤدبين، وإن الدهر بقوارعه أفصح المتكلمين، فانتبهوا بإيقاظه، واعتبروا بألفاظه.

ألا ينظر الناس فقد وهن العظم، وابيض الشعر، ورحل الأقران، ولم يبق إلا الرحيل؟ عجيب حال هذا الغافل: يوقن بالموت ثم ينساه، ويتحقق من الضرر ثم يغشاه، يخشى الناس والله أحق أن يخشاه، يغتر بالصحة وينسى السقم، ويفرح بالعافية ولا يتذكر الألم، يزهو بالشباب ويغفل عن الهرم، يهتم بالعلم ولا يكترث بالعمل، يحرص على العاجل ولا يفكر في خسران الآجل، يطول عمره ويزداد ذنبه، يبيض شعره ويسودّ قلبه، قلوب مريضة عزَّ شفاؤها، وعيون تكحلت بالحرام فقلَّ بكاؤها، وجوارح غرقت في الشهوات فحقّ عزاؤها.

ياسبحان الله عباد الله: ألم يأن لأهل الغفلة أن يدركوا حقيقة هذه الدار؟ أما علموا أن حياتها عناء، ونعيمها ابتلاء، جديدها يبلى، وملكها يفنى، ودها ينقطع، وخيرها ينتزع، المتعلقون بها على وجل إما في نعم زائلة، أو بلايا نازلة، أو منايا قاضية؟

يا قوم: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}11، العمر قصير، والخطر المحدق كبير، والمرء بين حالين: حال قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه.

فإذا كان الأمر كذلك – أيها الأحبة – فعلى صاحب البصر النافذ أن يتزود من نفسه لنفسه، ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه، ومن صحته لمرضه، فما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا سوى الجنة أو النار، ومن أصلح ما بينه وبين ربه كفاه ما بينه وبين الناس، ومن صدق في سريرته حسنت علانيته، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه.

أيها الإخوة: الأعمال بالخواتيم، فمن أصلح فيما بقي غُفِرَ له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أُخِذَ بما مضى وما بقي، الموتى يتحسّرون على فوات الحسنات الباقية، والأحياء يتحسرون على فوات أطماع الدنيا الفانية، ما مضى من الدنيا وإن طالت أوقاته فقد ذهبت لذاته، وبقيت تبِعاته، وكأن لم يكن إذا جاء الموت وميقاته.

في صحيح البخاري قول النبي – صلى الله عليه وسلم-: ((أعذر الله إلى من بلغه ستين من عمره))12.

فيا من طال عمره، وزاد ذنبه، وابيضَّ شعره، واسودَّ قلبه، يا من اقترف من الذنوب ما تعجز عن حمله المطايا، وبيّضت شعره الليالي، وسوّدت قلبه الخطايا، يا من تمر عليه سنة بعد سنة وهو مشتغل في نوم الغفلة والسنة، يا من يأتي عليه عام بعد عام وقد غرق في بحر الخطايا، يا من يشاهد الآيات والعبر كلما توالت عليه الأعوام والشهور، ويسمع الآيات والسور فلا ينتفع بما يسمع ولا بما يرى من عظائم الأمور، ما الحيلة – عباد الله – فيمن سبق عليه الشقاء في الكتاب المسطور؟ {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور}13، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}14.

معاشر المؤمنين: بانتهاء العام يجب أن تنظر إلى نهايتك المحتومة إما إلى نار أو إلى جنة، إما إلى نار قعرها بعيد، وحرّها شديد، وعذابها سعير، نار أوقد عليها حتى صارت مظلمة لا يضيء شررها، ولا يطفأ لهيبها، نار عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يوم يقول الجبار: خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُون}15، يوم يقول: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}16، ويوم: {يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}17، نسأل الله العافية والسلامة، ونعوذ به من سخطه والنار، ونسأل جنته ومرضاته.

اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا، ووفقنا لكل خير، وادفع عنا كل ضير، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


 


1 سورة آل عمران (102).

2 سورة النساء (1).

3 سورة الأحزاب (70-71).

4 سورة الحشر (18).

5 النور (44).

6 الحاقة (18).

7 يونس (5).

8 سورة النساء (157).

9 البقرة (189).

10 فصلت (40).

11 غافر (39).

12 رواه البخاري برقم (6419).

13 الحج (46).

14 النور (40).

15 الطور (13-14).

16 الطور (15-16).

17 الفجر (23-25).