اتقوا دعوة المظلوم

اتقوا دعوة المظلوم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد حذرنا الله من الظلم، وحرم علينا أن نظلم بعضنا بعضاً، وأخبرنا بأن دعوة المظلوم مستجابة حتى ولو كان المظلوم كافراً،  وقد جاءت أحاديث كثيرة ببيان أن دعوة المظلوم مستجابة، فمن ذلك الحديث الذي أخرجه الحاكم في المستدرك، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (118) عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة).

أحاديث أخرى بنفس المعنى:

روى الشيخان وغيرهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ: (اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينهما وبين الله حجاب).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله تعالى يقول لدعوة المظلوم: (وعزتي لأ نصرنك ولو بعد حين).1

وعنه -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه).2

شرح الحديث الأول المقصود بالدرس:

قوله: (اتقوا دعوة المظلوم) أي اجتنبوا دعوة من تظلمونه، وذلك مستلزم لتجنب جميع أنواع الظلم على أبلغ وجه، وأوجز إشارة، وأفصح عبارة؛ لأنه إذا اتقى دعاء المظلوم فهو أبلغ من قوله لا تظلم، وهذا نوع شريف من أنواع البديع يسمى تعليقا.

قوله: (فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة) كناية عن سرعة الوصول لأنه مضطر في دعائه، وقد قال سبحانه وتعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} سورة النمل(62). وكلما قوي الظلم قوي تأثيره في النفس فاشتدت ضراعة المظلوم فقويت استجابته والشرر ما تطاير من النار في الهواء. شبَّه سرعة صعودها بسرعة طيران الشرر من النار"3..

بعض أضرار الظلم وعواقبه:

الظلم مرتعه وخيم، وخطره جسيم، وعواقبه مظلمة، وإليك بعضاً من أضرار الظلم وعواقبه..

أولاً: الظلم ظلمات يوم القيامة؛ لما جاء في البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الظلم ظلمات يوم القيامة).

ثانياً: الظلم سبب هلاك الأمم، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيّنَـٰتِ} سورة يونس(13). قال ابن سعدي-رحمه الله-: "يخبر تعالى أنه أهلك الأمم الماضية بظلمهم وكفرهم، بعدما جاءتهم البينات على أيدي الرسل تبين الحق فلم ينقادوا لها ولم يؤمنوا، فأحل بهم عقابه الذي لا يرد عن كل مجرم متجرئ على محارم الله، وهذه سننه في جميع الأمم"4.

ثالثا: قبول دعوة المظلوم على الظالم، لما جاء في أحاديث عدة، ومن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: (واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الولد على ولده)5.

رابعاً: اللعن للظالمين، قال تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} سورة هود(18). قال ميمون بن مهران: إن الرجل يقرأ القرآن وهو يلعن نفسه، قيل له: وكيف يلعن نفسه؟! قال: يقول: {أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} وهو ظالم6.

خامساً: إملاء الله للظالم حتى يأخذه، فقد جاء في البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته) ثم قرأ: {وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِىَ ظَـٰلِمَةٌ} سورة هود(102). قال القرطبي: "يملي: يطيل في مدّته، ويصحّ بدنه، ويكثر ماله وولده ليكثر ظلمُه؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} سورة آل عمران(128)، وهذا كما فعل الله بالظلمة من الأمم السالفة والقرون الخالية، حتى إذا عمّ ظلمهم وتكامل جرمهم أخذهم الله أخذة رابية، فلا ترى لهم من باقية، وذلك سنة الله في كلّ جبار عنيد"7.

سادساً: حال الظالمين في الآخرة، قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأبْصَـٰرُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} سورة إبراهيم(42، 43). قال ابن كثير-رحمه لله-: "يقول الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ} يا محمد {غَـٰفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} أي لا تحسبنه إذا أنظرهم وأجّلهم أنه غافلٌ عنهم مهمِل لهم لا يعاقبهم على صنعهم، بل هو يحصِي ذلك عليهم ويعدّه عليهم عداً، {إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأبْصَـٰرُ} أي: من شدّة الأهوال يوم القيامة. ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر فقال: {مُهْطِعِينَ} أي: مسرعين، {مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: رافعي رؤوسهم، {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي أبصارهم ظاهرة شاخصة مديمون النظر لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحلّ بهم، عياذاً بالله العظيم من ذلك، ولهذا قال: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} أي وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة الوجل والخوف"8.

سابعاً: حرمان الفلاح، قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} سورة الأنعام(21). قال ابن سعدي-رحمه الله-: "فكلّ ظالم وإن تمتّع في الدنيا بما تمتّع به فنهايته فيه الاضمحلال والتلف"9.

ثامناً: حرمان الهداية والتوفيق، قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} سورة القصص(50). وطلب هداية التوفيق من الأدعية التي أوجبها الله علينا في أعظم مقام نقف فيه بين يدي الله -عز وجل-، وهو في الصلاة، حيث نقول في كل ركعة: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} سورة الفاتحة(6). فالظلم-أعاذنا الله منه- يكون سبباً لحرمان هداية التوفيق، وهذا يستلزم البعد عن مقامات الظلم حتى يستجيب الله دعاءنا في صلاتن10.

تاسعاً: حرمان حبّ الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} سورة الشورى(40). قال ابن سعدي -رحمه الله-: "أي: الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم"11..

عاشراً: حلول المصائب في الدنيا والعذاب في القبر، قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} سورة الطور(47). قال ابن سعدي-رحمه الله-: "لما ذكر الله عذاب الظالمين في القيامة أخبر أن لهم عذاباً دون عذاب يوم القيامة، وذلك شامل لعذاب الدنيا بالقتل والسبي والإخراج من الديار، ولعذاب البرزخ والقبر"12.

حادي عشر: العذاب الأليم، قال تعالى: {إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة الشورى(42). قال ابن سعدي-رحمة الله عليه-: "أي إنما تتوجه الحجة بالعقوبة الشرعية {عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ}، وهذا شامل للظلم والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، {أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي موجع للقلوب والأبدان، بحسب ظلمهم وبغيهم"13.

ثاني عشر: خذلان الظالم عند الله تعالى، قال تعالى: {مَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} سورة غافر(18). قال ابن عثيمين-رحمه الله-: "أي أنه يوم القيامة لا يجد الظالم حميماً، أي: صديقاً ينجيه من عذاب الله، ولا يجد شفيعاً يشفع له فيطاع، لأنه منبوذ بظلمه وغشمه وعدوانه"14. وقال تعالى: {وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} سورة البقرة(270). قال ابن عثيمين-رحمة الله عليه-: "يعني: لا يجدون أنصاراً ينصرونهم ويخرجونهم من عذاب الله سبحانه"15.

بعض الفوائد من الحديث:

1.    وجوب البعد عن الظلم، والحذر من ذلك بكافة صوره وأشكاله.

2.    أن دعوة المظلوم مستجابة، فعلى الإنسان أن يحذر من الظلم حتى لا تصيبه دعوة مظلوم فيخسر بسبها الدنيا والآخرة.

3.  أن على الإنسان أن يتحلى بخلق العدل، حتى مع العدو، فبالعدل أنزل الله الكتب وأرسل الرسل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} سورة الحديد (25).

 

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 


1 رواه أحمد والترمذي وابن ماجه. وهو حديث صحيح.

2 رواه الإمام أحمد وغيره، وحسنه الألباني.

3  يراجع: فيض القدير(1/141 – 142).

4 تيسير الكريم الرحمن (359).

5 أخرجه أحمد في المسند، وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وحسنه الترمذي، وكذلك الألباني في السلسلة الصحيحة (596).

6 تنبيه الغافلين (377).

7 المفهم (6/557).

8 تفسير القرآن العظيم (2/561).

9 تيسير الكريم الرحمن (274).

10 الظلم ظلمات يوم القيامة لناظم سلطان، صـ( 29).

11  تيسير الكريم الرحمن (760).

12 المصدر المسابق (818).

13 المصدر السابق(760).

14 شرح رياض الصالحين (4/597).

15 شرح رياض الصالحين (4/597).