شكاوى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

شكاوى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

عاش الرسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعاً أوحدَ للمسلمين جميعاً، يرجعون إليه في حل قضاياهم، فكان هو المفتي، وهو القاضي، وهو الحاكم صلى الله عليه وسلم، وقد سطرت لنا كتب السنة الصحيحة وقائع كثيرة؛ وحوادث عديدة؛ تحكي شكاوى وصلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بحلها، وفصل فيها:

     فمن ذلك شكوى الصحابة رضي الله عنهم أجمعين لرسول الله  صلى الله عليه وسلم ما يلقونه من تعذيب رهيب من قبل الكفار فقد جاء عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى عليه الله وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: ((كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنين؛ وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) رواه البخاري (3343) ومسلم (981).

     ومن تلك الشكاوى شكوى الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في وقت الظهيرة فعن خباب رضي الله عنه قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكونا إليه حر الرمضاء، فلم يُشْكِنا، يقول زهير (أحد رواة الحديث) قلت لأبي إسحاق: أفي الظهر؟ قال: نعم، قلت: أفي تعجليها؟ قال: نعم) رواه مسلم (982).

     ومن تلك الشكاوى شكوى صعوبة الحفر لشهداء يوم أحد فعن هشام بن عامر قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقلنا: يا رسول الله الحفر علينا لكل إنسان شديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احفروا وأعمقوا وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد))، قالوا: فمن نقدم يا رسول الله؟ قال: ((قدموا أكثرهم قرآناً)) قال: فكان أبي ثالث ثلاثة في قبر واحد))1.

     ومن ذلك شكوى جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: "ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي، ولقد شكوت إليه أني لا أثبت على الخيل فضرب بيده في صدري، فقال: ((اللهم ثبته، واجعله هادياً مهدياً)) رواه البخاري (5625) ومسلم (4533).

     ومن ذلك شكوى أبو هريرة رضي الله عنه سوء حفظه فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوء الحفظ، قال: ((افتح كساءك))، قال: ففتحته، قال: ((ضمه))، قال: فما نسيت بعد شيئاً"2.

ولم تقتصر الشكاوى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإنسان، بل الحيوانات اشتكت لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومن شكاوى تلك الحيوانات:

     شكوى الجمل فعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه، فأسر إليَّ حديثاً لا أخبر به أحداً أبداً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب ما استتر به في حاجته هدف (وهو كل ما ارتفع من بناء أو غيره)، أو حائش نخل (أي جماعة النخل)، فدخل يوماً حائطاً من حيطان الأنصار، فإذا جمل قد أتاه فجرجر (أي ردد صوته في حنجرته)، وذرفت عيناه، قال بهر وعفان: فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنَّ وذرفت عيناه، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرَاتَه (وهي الظهر وقيل السنام)، وذِفْرَاه (العظم الشاخص خلف الأذن) فسكن ، فقال: ((من صاحب هذا الجمل؟)) فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله، فقال: ((أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملككها الله، إنه شكا إلي أنك تجيعه وتُدْئِبه))3.

     ومن ذلك شكوى الحمامة فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، ومررنا بشجرة فيها فرخا حُمَّرة (طائر صغير كالعصفور)، فأخذناهما، قال: فجاءت الحمرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تصيح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من فجع هذه بفرخيها؟)) قال: فقلنا: نحن، قال: ((فردوهما))4.

جاءت إليك حمامة مشتاقة       تشكو إليك بقلب صَبٍ واجف

من أخبر الورقاء أن مقامكم     حـَــرَمٌ وأنك منزل للخائف

فهذه بعض الشكاوى التي وصلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس المقام مقام حصر لها؛ إذ مثل ذلك يطول، ولكنها إشارات لبعض هذه الشكاوى التي يظهر فيها عظيم رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته، ويظهر فيها عنايته صلى الله عليه وسلم بأصحابه رضي الله عنهم وتثبيتهم على دينه، وحسن عشرته لهم، والسعي في حل مشاكلهم إلى غير ذلك من الدروس التي يمكننا استنباطها من هذه الشكاوى.

نسأل الله أن يوفقنا إلى كل خير، وأن يجنبنا كل سوء ومكروه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..


1 رواه النسائي (1983)، وقال الألباني: "صحيح"؛ كما في صحيح ابن ماجة (1560).

2 رواه أبو يعلى في مسنده (11/88)، وقال حسين سليم أسد: "إسناده قوي".

3 رواه أبو داود(2186) وأحمد (1654)، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2269).

4 رواه أبو داود (3300)، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2268).