سلطان العلماء

سلطان العلماء

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

في تاريخنا الإسلامي الزاهر نماذج رائعة من العلماء العاملين الذين أدوا رسالتهم على أكمل وجه، فكانوا نبراساً يستضاء بهم في كل زمان، ونماذج يقتدى بها في وقت تُفتقد فيه القدوة الصالحة، والكلمة الجريئة، والمجابهة الصريحة في سبيل إعلاء كلمة الله، ومن هؤلاء العلماء العاملين سلطان العلماء العز بن عبد السلام؛ الذي سنتحدث في هذه السطور عن مقتطفات من سيرته، وشذرات من ترجمته، لأن الحديث عنه يحتاج إلى مصنفات، لكن حسبنا هنا التذكير بشأنه رحمه الله.

اسمه ولقبه:

هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد بن مهذب السلمي المغربي أصلاً، الدمشقي مولداً، ثم المصري داراً ووفاة، والشافعي مذهباً، يُكنى بأبي محمد، لُقِّب بعدة ألقاب أشهرها: "عز الدين" وهو اللقب الذي شاع بين الناس، وكذلك لُقِّب بالإمام العز، ولُقِّب بسلطان العلماء، لقَّبه بذلك ابن دقيق العيد وهو أحد تلامذته؛ كما لُقِّب بشيخ الإسلام.

مولده:

اتُّفق على أنه ولد في دمشق، ولكن اختُلِفَ في تحديد سنة ولادته ما بين 577هـ وسنة 578هـ، والأرجح أنها سنة 577ﻫ1.

نشأته:

نشأ وعاش رحمه الله في أسرة فقيرة مغمورة لم يكن لها مجد ولا سلطان، ولا منصب ولا علم، حيث عاش في دمشق، وهي وقتئذ مركز هام للعلم والمعرفة، وقبلة للعلماء والفقهاء، وخطُّ مواجهة أماميٌّ مع الصليبيين الغزاة الذين احتلوا مدناً وحصوناً عديدة في فلسطين وساحل بلاد الشام، كما كانت دمشق ممتلئة بنعم الله وخيراته الوفيرة من ماء عذب وزراعة، وصناعة وتجارة درَّت عليها الرزق الواسع، والخير الوفير.

في هذه المدنية العريقة ولد العز بن عبد السلام، ونشأ في ربوعها، وتنسم هواءها، وترعرع في أجوائها، وقد انشغلت أسرته بطلب الرزق عن طلب العلم؛ إلا أن العز كان منذ نشأته الأولى عفيفاً شريفاً، يملك نفساً أبية، إذ لم يُعرف عنه أنه امتهن مهنة تزري بصاحبها، أو تحط من شأنه، وكان رحمه الله شاباً متديناً، متعبداً؛ رغم فقره وكده على رزقه، ولا أدل على ذلك من مبيته في المسجد الليالي الطوال ينتظر الصلاة؛ كي لا تفوته الجماعة، أو يغيب عن الصلاة والعبادة فيه.

وفي كنف تلك المدينة العظيمة، وفي ظل بيوت الله عز وجل؛ نشأ هذا الشاب العابد الورع التقي ليخرج لهذه الأمة عالماً جليلاً، ومفتياً عظيماً.

حياته:

كما أسلفنا أن نشأة هذا العالم الفذ كانت في ظل أسرة فقيرة، وبالتالي فقد كانت حياته مليئة بالعقبات والصعوبات، يحدثنا عن حياته الإمام السبكي فيقول: "كان الشيخ عز الدين في أول أمره فقيراً جداً، ولم يشتغل إلا على كِبَرٍ، وسبب ذلك أنه كان يبيت في الكلاسة وهي زاوية في الجانب الشمالي من جامع دمشق، فبات بها ليلة ذات بردٍ شديد فاحتلم، فقام مسرعاً، ونزل في بِركة الكلاسة؛ فحصل له ألمٌ شديدٌ من البرد، وعاد فنام فاحتلم ثانياً فعاد إلى البركة؛ لأن أبواب الجامع مغلقة، وهو لا يمكنه الخروج، فطلع فأغمي عليه من شدة البرد، ثم سمع النداء في المرة الأخيرة: "يا ابن عبد السلام، أتريد العلم أم العمل؟ فقال الشيخ عزُّ الدين: "العلمَ؛ لأنه يهدي إلى العمل"، فأصبح وأخذ التنبيه فحفظه في مدة يسيرة، وأقبل على العلم فكان أعلم أهل زمانه، ومن أعبد خلق الله تعالى"2.

ومن يومها قصد العز العلماء فجلس في حلقاتهم، ونهل من علومهم؛ يقول عن نفسه رحمه الله: "ما احتجت في شيء من العلوم إلى أن أكمله على الشيخ الذي أقرأه عليه، وما توسطته، حتى يقول لي: "استغنيت عني، واشتغل فيه مع نفسك"، ومع ذلك ما كنت أتركه حتى أختمه عليه"3.

وقد تفقه العز على كبار علماء عصره كما يقول السبكي: "تفقه على الشيخ فخر الدين ابن عساكر، وقرأ الأصول على الشيخ سيف الدين الآمدي وغيره، وسمع الحديث من الحافظ أبي محمد القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر، وشيخ الشيوخ عبد اللطيف بن إسماعيل بن أبي سعد البغدادي، وعمر بن محمد بن طَبَرْزَد، وحنبل بن عبدالله الرُّصافي، والقاضي عبد الصمد بن محمد الحرستاني، وغيرهم"4.

ثباته على الحق:

وقد كان أعجوبة في الثبات على الحق، والصدع به، وسجلت لنا كتب التاريخ والسير مواقف عدة له في ذلك؛ فمن تلك المواقف الفريدة: موقفه من أمير دمشق "الصالح إسماعيل" المعروف بـ"أبي الخيش"، حيث استعان هذا الأمير: "بالفِرنج، وأعطاهم مدينة صيدا، وقلعة الشَّقيف؛ فأنكر عليه الشيخ عز الدين، وترك الدعاء له في الخطبة، وساعده في ذلك الشيخ أبو عمرو بن الحاجب المالكي، فغضب السلطان منهما فخرجا إلى الديار المصرية في حدود سنة تسع وثلاثين وستمائة.

فلما مرّ الشيخ عز الدين بالكَرك تلقَّاه صاحبها؛ وسأله الإقامة عنده، فقال له: "بلدك صغيرٌ على علمي"، ثم توجه إلى القاهرة فتلقَّاه سلطانها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، وأكرمه وولاه خطابة جامع عمرو بن العاص بمصر، والقضاء بها، وبالوجه القبلي مدَّة"5.

ومن تلك المواقف أيضاً موقفه الذي ينقله لنا الإمام السيوطي رحمه الله فيقول: "لما تولى الشيخ عز الدين القضاء تصدى لبيع أمراء الدولة من الأتراك، وذكر أنه لم يثبت عنده أنهم أحرار، وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، فبلغهم ذلك؛ فعظم الخطب عندهم، واجترم الأمر، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعاً، ولا شراءً، ولا نكاحاً، وتعطلت مصالحهم لذلك.

وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاستثار غضباً، فاجتمعوا وأرسلوا إليه، فقال: نعقد لكم مجلساً، وننادي عليكم لبيت مال المسلمين، فرفعوا الأمر إلى السلطان؛ فبعث إليه فلم يرجع، فأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة فلم يفد فيه، فانزعج النائب وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ، ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟ والله لأضربنه بسيفي هذا.

فركب بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده، فطرق الباب، فخرج ولد الشيخ، فرأى من نائب السلطنة ما رأى؛ وشرح له الحال، فما اكترث لذلك، وقال: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، ثم خرج.

وحين وقع بصره على النائب يبست يد النائب، وسقط السيف منها، وأرعدت مفاصله؛ فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: يا سيدي إيش (أي ماذا تعمل)؟ فقال: أنادي عليكم وأبيعكم، قال: ففيم تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين، قال: من يقبضه؟ قال: أنا.

فتمَّ ما أراد، ونادى على الأمراء واحداً واحداً، وغالى في ثمنهم؛ ولم يبيعهم إلا بالثمن الوافي، وقبضه وصرفه في وجوه الخير"6، ومن يومها صار العز بن عبد السلام "بائع الأمراء" بحق.

قوته في إنكار المنكر:

لقد كان الإمام العز قوَّالاً بكلمة الحق، صادعاً بها، لا تأخذه في الله لومة لائم؛ فكان ينكر المنكرات على أصحابها؛ حتى أنكر على سلاطين عصره كما تروي لنا كتب التاريخ موقفاً عظيماً في ذلك فقد: "طلع عز الدين مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة؛ فشاهد العساكر مصطفين بين يديه، ومجلس المملكة، وما السلطانُ فيه يوم العيد من الأبَّهة، وقد خرج على قومه في زينته على عادة سلاطين الديار المصرية، وأخذت الأمراء تُقبِّلُ الأرض بين يدي السلطان.

فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه: "يا أيوبُ، ما حُجَّتُك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملكَ مصر، ثم تبيح الخمور؟"، فقال: "هل جرى هذا؟"، فقال: "نعم، الحانة الفُلانية يباع فيها الخمور، وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة"، يناديه كذلك بأعلى صوته، والعساكر واقفون … فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة"7.

ثناء العلماء عليه:

وقد أثنى العلماء عليه كثيراً حتى قال عنه الإمام الذهبي رحمه الله: "بلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه رئاسة المذهب، مع الزهد والورع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلابة في الدين"8.

وقال عنه فخر الدين بن شاكر الكتبي رحمه الله: "شيخ الإسلام، وبقية الأعلام، الشيخ عز الدين .. سمع .. وتفقه .. ودرّس وأفتى، وبرع في المذهب، وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصده الطلبة من البلاد، وتخرج به أئمة، وله الفتاوى السديدة، وكان ناسكاً ورعاً، وأمّاراً بالمعروف، نهاءً عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم"9.

وقال عنه اليافعي اليمني رحمه الله: "سلطان العلماء، وفحل النجباء، المقَّدم في عصره على سائر الأقران، بحر العلوم والمعارف، والمعظم في البلدان، ذو التحقيق والإتقان، والعرفان والإيقان … وهو من الذين قيل فيهم: علمهم أكثر من تصانيفهم، لا من الذين عبارتهم دون درايتهم، ومرتبته في العلوم الظاهرة مع السابقين في الرعيل الأول"10.

وقال العلامة تاج الدين ابن السبكي في ترجمته للعز: "شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في زمانه، المَّطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها، لم ير مثل نفسه، ولا رأى من رآه مثله، عِلمْاً وورعاً، وقياماً في الحق، وشجاعة وقوة جنان، وسلاطة لسَان"11.

وقال المؤرخ الفقيه الأديب العماد الحنبلي رحمه الله: "عز الدين، شيخ الإسلام .. الإمام العلامة، وحيد عصره، سلطان العلماء، وبرع في الفقه والأصول والعربية، وفاق الأقران والأضراب، وجمع بين فنون العلم من التفسير والحديث، والفقه واختلاف الناس ومآخذهم، وبلغ رتبة الاجتهاد، ورحل إليه الطلبة من سائر البلاد، وصنف التصانيف المفيدة"12.

والحديث عن العز وثناء العلماء عليه يطول، ولكن حسبنا أن أشرنا إلى ذلك، وذكرنا بهذا العَلم من أعلام هذه الأمة المباركة، وهذا أقل ما نقدمه في حق علماءنا الأجلاء.

وفاته:

توفي بائع الأمراء، وسلطان العلماء، في سن الثالثة والثمانين (10 من جمادى الأولى 660هـ).

رحمة الله عليه وعلى جميع علماء هذه الأمة، ونختم بالصلاة والسلام على محمد النبي الأمي إمام العلماء، وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 انظر: الأيوبيون بعد صلاح الدين (2/33) الموسوعة الشاملة (3).

2 انظر: طبقات الشافعية الكبرى (8/213) لتاج الدين بن علي بن عبد الكافي السبكي، تحقيق: د. محمود محمد الطناحي ود.عبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع 1413هـ، ط. الثانية.

3 ينظر: رفع الإصر عن قضاة مصر (1/241) لشهاب الدين أحمد بن علي بن محمد العسقلاني، تحقيق: د.علي محمد عمر، مكتبة الخانجي – القاهرة / مصر 1418هـ-1998م، ط. الأولى.

4 طبقات الشافعية (8/209) لتاج الدين بن علي بن عبد الكافي السبكي، تحقيق: د. محمود محمد الطناحي ود.عبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع 1413هـ، ط. الثانية.

5 طبقات الشافعية (8/210).

6 حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة السيوطي (1/269) الموسوعة الشاملة (3).

7 طبقات الشافعية للسبكي (8/212).

8 العبر في خبر من غبر (5/260) لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق د. صلاح الدين المنجد، مطبعة حكومة الكويت 1984م.

9 فوات الوفيات (2/351) لمحمد بن شاكر الكتبي، المحقق: إحسان عباس، دار صادر – بيروت.

10 مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان (2/200) الموسوعة الشاملة (3).

11 طبقات الشافعية الكبرى (8/209)، للإمام العلامة تاج الدين بن علي بن عبد الكافي السبكي، تحقيق: د. محمود محمد الطناحي، د.عبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع 1413هـ، ط. الثانية.

12 شذرات الذهب في أخبار من ذهب (5/300) لعبد الحي بن أحمد العكري الدمشقي، دار الكتب العلمية.