أليس لكم في النملة عبرة

أليس لكم في النملة عبرة

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، من بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة حتى أتاه اليقين من ربه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

نداء عاجل لكل من يحمل في قلبه ذرة همٍّ لأمته، بل لكل من ينتمي لهذه الأمة الإسلامية المنكوبة في هذا الزمان، يقول المولى – جل وعلا – عن رحلة سليمان – عليه السلام -: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}1 قال نوف الحميري: "كان نمل ذلك الوادي أمثال الذباب"2.

خرج الموكب الميمون يقودهم ذلكم الرسول الكريم – سليمان عليه السلام – حشد هائل {مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ}3 إنهم يتقدمون يزحفون

وجيش كجنح الليل يزحف بالحصى         وبالشوك والخطِّي حمر ثعالبه

ترقب تلك النملة الصغيرة الحدث في دهشة ورعب، الحشد الهائل يقترب.. يا إلهي تتلفت النملة يميناً يساراً .. تنظر الحشدَ، ثم تلتفتُ إلى مسكنها وأهلها وجيرانها، الكل في غفلة لا يدري عن الجنود القادمين، لحظات ويصبح وادي النمل أثراً بعد عين، لكن النملة الصغيرة استشعرت في نفسها أنها المسئول الوحيد عن مصير قومها؛ لأن العلم حجة على العالم، وكتمه قد يودي بحياة أمة بأكملها.

هرولة النملة مسرعة إلى مساكن قومها تصيح بأعلى صوتها في ذعر شديد: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}4 إنهم قادمون، إنهم قادمون.

وبهذا الشعور، وذلك الصدق، وتلك الروح الأخوية الفذة؛ أنجت النملة وادٍ بأكمله من النمل من إبادةٍ جماعية كانت ستحل بهم عن قريب، وسطَّرها القرآن مثالاً رائعاً ناصعاً على الأخوة والوفاء ونكران الذات، والشعور بالمسئولية، وبذل ما في الوسع لخدمة الآخرين.

أيها المسلمون .. أيها العلماء .. أيها الإعلاميون، يا كل من يمتلك فماً يتكلم به، ويداً يبطش بها، ورجلاً يمشي بها، وعلماً يستنير به: هلاّ تعلمتم دروساً من هذه النملة الصغيرة، ولماذا سطّرها ربنا الكريم في كتابه العظيم؟ تفكروا وانظروا وتدبروا في أمر هذه النملة الفذة، كيف أنها أبلغت قومها بالخبر.

علمت فبلَّغت، وما كتمت ولا خافت، ولا خانت ولا غشت، وفاء لقومها، وأداء لأمانتها، وموافقة لفطرتها، وحالها:

سأحفظ من آخى أبي في حياته      وأحفظه من بعده في الأقارب

إن الذين يخونون أمانتهم في أمتهم، ويغشونها ويزينون لها الباطل الذي سيرديها في مهاوي الخسار والدمار؛ إنما هم شواذ عن هذه الفطرة الربانية في قلوب هذه الخليقة، كم من أناس وحكام وصحفيين – مثلاً – كانوا يعلمون أن القصف على غزة سيكون بعد أيام، لكنهم خانوا الأمانة، وضيعوا العهد، ونقضوا الميثاق، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، ليكونوا أحفاداً لقائدهم الأول في تاريخ الخيانة والغش: رجل كان يقال له بلعام، وكان مجاب الدعوة، وإن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام، فأتاه قومه فقالوا: أدع الله عليهم! فقال: حتى أؤامر ربي فمُنع، فأتوه بهدية فقبلها، وسألوه ثانياً فقال: حتى أؤامر ربي فلم يرجع إليه بشيء، فقالوا: لو كره لنهاك، فدعا عليهم، فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل فينقلب على قومه، فلاموه على ذلك5"، واندلع لسانه على صدره، فقال: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة، وسأمكر لكم، فإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم؛ فإن الله يبغض الزنا، فإن وقعوا فيه هلكوا، ففعلوا فوقع بنو إسرائيل في الزنا، فأرسل الله عليهم الطاعون، فمات منهم سبعون ألفا"6

أخلِق7 بمن رضي الخيانة شيمةً                أن لا يرى إلا صريع حوادث

ما زالت الأرزاء تلحق بؤسها                 أبداً بغـادر ذمةٍ أو ناكـث8

قال الله – عز وجل -: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ}9، وقال – تعالى -: "{وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}10، وذُكر أن عيسى – عليه السلام – مرَّ برجل وهو يطارد حية وهي تقول له: "والله لئن لم تذهب عني، لأنفخنّ عليك نفخة أقطعك بها قطعاً"، فمضى عيسى – عليه السلام – في شأنه، ثم عاد فرأى الحية في جونة الرجل محبوسة، فقال لها: ويحك أين ما كنت تقولين؟ قالت: "يا روح الله، إنه حلف لي وغدر، وإن سُم غدره أقتل له من سمي"11.


1 سورة النمل (18).

2 تفسير البغوي (ج6/ص151).

3 سورة النمل (17).

4 سورة النمل (18).

5 فتح الباري لابن حجر (ج10/ص183)، ثم قال ابن حجر – رحمه الله -: "وهذا مرسل جيد".

6 تفسير القرطبي (ج7/ص319).

7 أخلق: ظن ظناً جازماً به.

8 نهاية الأرب في فنون الأدب (ج1/ص375).

9 سورة الأعراف (102).

10 سورة الرعد (25).

11 نهاية الأرب في فنون الأدب (ج1/ص375).