لا تكن كالشمعة

لا تكن كالشمعة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أخي طالب العلم، ومعلم الناس الخير: هل تفكرت يوماً في حال الشمعة حين تحترق لتضيئ للآخرين على حساب نفسها؟

هذا الحال هو نفس حال بعض طلاب العلم الذين خالفت أقوالهم أفعالهم حين أمروا الناس بالمعروف ثم لم يفعلوه، ونهوهم عن منكر ثم لم يتركوه، وقد ورد في الشرع أن العلم الذي يتعلمه الإنسان ثم لا يعمل به يكون وبالاً عليه يوم القيامة؛ ذلك لأن العلم النافع هو ما ابتُغي به وجه الله، وأورث صاحبه خشية الله قال ابن مسعود رضي اللَّه عنه: "ليس العلم عن كثرة الرواية، ولكن العلم الخشية"1، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(سورة فاطر: 28)، ويقول علي بين أبي طالب رضي الله عنه: "يا حملة العلم اعملوا فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيَهم، يخالف عملهم علمهم، ويخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حِلقاً يباهي بعضهم بعضاً، حتى إنّ الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدَعَه، أولئك لا يصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله تعالى"2، وقال الزهري رحمه الله: "إن للعلم غوائل، فمن غوائله أن يترك العمل به حتى يذهب، ومن غوائله النسيان، ومن غوائله الكذب فيه وهو شر غوائله"3، وسئل سفيان الثوري رحمه الله: طلب العلم أحبّ إليك أو العمل؟ فقال: "إنما يراد العلم للعمل، فلا تدع طلب العلم للعمل، ولا تدع العمل لطلب العلم"4.

وقد جاءت النصوص بذم من تعلم ولم يعمل بعلمه كما في قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}(البقرة: 44) وفي الآية مقت لمن يخالف قوله فعله، وهي في شأن يهود، لكنها تنطبق على كل من تعلم العلم ولم يعمل به يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: "والغرض أن الله تعالى ذمهم (أي اليهود) على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم؛ كما قال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}(هود: 88)، فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف"5.

وقد شبه الله من علم ولم يعمل بما علم بالحمار في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}(الجمعة:5) فإن حظ من لم يعمل بعلمه كحظ الحمار من الكتب التي أثقلت ظهره ولم ينتفع بما فيها قال ابن القيم رحمه الله: "فهذا المثل وإن كان قد ضرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به، ولم يؤد حقه، ولم يرعه حق رعايته"6.

وضرب الله مثلاً بمن تعلم ولم يعمل بعلمه بأخس الحيوانات كما في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث …}(الأعراف:175-176) يقول ابن القيم رحمه الله: "فشبه سبحانه من أتاه كتابه وعلمه العلم الذي منعه غيره؛ فترك العمل به، واتبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق؛ بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات، وأوضعها قدراً، وأخسها نفساً، وهمته لا تتعدى بطنه، وأشدها شرهاً وحرصاً"7.

وقد جاءت الأحاديث بالتأكيد على أهمية العمل بالعلم، والتحذير من ضد ذلك؛ فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه (أي: أمعاؤه) فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه)) رواه مسلم (2989) يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "فهذا الحديث فيه التحذير الشديد من الرجل الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويخلف قوله فعله" إلى أن قال رحمه الله: "يقول للناس: صلوا، ولا يصلي، ويقول لهم: زكوا أموالكم، ولا يزكي، ويقول بروا الوالدين ولا يبر والديه، وهكذا يأمر بالمعروف ولكنه ولا يأتيه، ((وأنهى عن المنكر وآتيه)) يقول للناس لا تغتابوا الناس، لا تأكلوا الربا، لا تغشوا في البيع، لا تسيئوا العشرة، لا تسيئوا الجيرة، وما أشبه ذلك من الأشياء المحرمة التي ينهى عنها، ولكنه يأتيها والعياذ بالله، يبيع بالربا، ويغش ويسئ العشرة، ويسئ إلى الجيران، وغير هذا، فهو بذلك يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه، نسأل الله العافية، فيعذب هذا العذاب، ويخزى هذا الخزي"8.

فيا طالب العلم: إياك وترك العمل بالعلم، حتى لا تكن كمثل السراج والشمعة تضيء للناس وتحرق نفسها فعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس، ويحرق نفسه))9، وروي عن أبي برزة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء على الناس، وتحرق نفسها))10.

فما أروع هذا التشبيه وأبلغه حين شبَّه الداعية ومعلم الناس الخير الذي لم يستفد من علمه، ولم يستنر بنوره؛ بالسراج تارة، وبالفتيلة تارة أخرى.

فالسراج يضيء للناس فيستفيدون من نوره، لكنه يحرق نفسه، ويصطلي بحرارة فتيلته، فيفيد غيره ولا يستفد لنفسه، وهكذا من يعلم الناس، وينسى نفسه؛ يضيء لغيره طريق الخير، ويدله عليه، لكنه لا يجني إلا التعب والعناء في الدنيا، والاصطلاء بالنار يوم القيامة.

ومن جمع المعلومات، وأكثر من المحفوظات ثم لم يعمل بها فإنما يستكثر من حجج الله عليه فعن عطاء قال: "كان فتى يختلف إلى أم المؤمنين عائشة، فيسألها وتحدثه، فجاءها ذات يوم يسألها فقالت: يا بني هل عملت بعد ما سمعت مني؟ فقال: لا والله يا أمه، فقالت: يا بني فبما تستكثر من حجج الله علينا وعليك؟"11

إذا العلم لم يعمل به كان حـجةً         عليك ولم تعذر بما أنت حاملُ

فإن كنت قد أبصرت هذا فإنمـا        يُصدِّقُ قـول المرء ما هو فاعلُ

وفي الأخير: لسنا نزهِّد في طلب العلم، لا والله، بل نحث وندعو إلى طلب العلم وحفظه، ثم العمل به، ونشره بين الناس؛ لكننا ندعو إلى العمل بما تعلمه الإنسان حتى لا يكون عليه حجة؛ جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه))12.

نسأل الله أن يوفقنا إلى كل خير، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/13) أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، دار الكتاب العربي – بيروت (1405) ط. الرابعة.

2 تاريخ الخلفاء (157) لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة – مصر، ط. الأولى (1371هـ – 1952م).

3 حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/364).

4 المصدر السابق (7/12).

5 تفسير القرآن العظيم (1/86) لإسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي أبو الفداء، دار الفكر – بيروت (1401هـ).

6 إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/194) لابن قيم الجوزية، دراسة وتحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية – مصر – القاهرة (1388هـ/1968م).

7 إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/194).

8 شرح رياض الصالحين (1/538)، المكتبة الإسلامية، ط. الأولى.

9 رواه الطبراني في الكبير برقم (1681)، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الجامع برقم (5837).

10 قال الحافظ المنذري رواه البزار كما في الترغيب والترهيب (1/74)، وقال الألباني: "صحيح لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب برقم (130).

11 اقتضاء العلم العمل (ص60) لأحمد بن علي بن ثابت البغدادي أبو بكر، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي – بيروت (1397) ط. الرابعة.

12 رواه الطبراني في الكبير برقم (111)، وقال الألباني: "صحيح لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3593).