عينان لا تمسهما النار

 

 

عينان لا تمسهما النار

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي بكت من خشيته العيون، وأشهد أنه وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

الخوف من الله – تعالى – سمة المؤمنين، وعلامة المتقين، وديدن العارفين، لأن خوف الله – تبارك وتعالى – في الدنيا طريقٌ للأمن في الآخرة، وسببٌ للسعادة في الدارين،ودليل على كمال الإيمان، وحسن الإسلام، وصفاء القلب، وطهارة النفس، فإذا ما سكن الخوف في القلب أحرق مواضع الشهوات منه، وجرت العيون بالدموع.

والبكاء من خشية الله – تبارك وتعالى -، وإسبال الدموع؛ له فضل كبير عند الله -تبارك وتعالى -، ورد ذلك في القرآن في عدة آيات منها قول الله – تبارك وتعالى -: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً*وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}1, وقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}2، وقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداًوَبُكِيّاً}3وغيرها من الآيات، وفيها دلالة على أن أهل الإيمان سريعي التأثر بآيات الله – تبارك وتعالى-.

وورد في السنة في فضل البكاء من خشية الله – تعالى – الشيء الكثير نقتصر على بعض منها وهي:

 أن من بكى من خشية الله – تبارك وتعالى – لا تمس عيناه النار ففي حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول:((عينان لا تسمهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله))4.

 ولا يلج النار لحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله  : ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعوده اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم))5، وورد في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي  يروي عن ربه – جل وعلا – قال: ((وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة))6.

 ويكون ممن يظل تحت عرش الرحمن – تبارك وتعالى – في يوم يكون الناس فيه في أشد حاجةإلى الظل حين تدنو الشمس من الرؤوس، ويلجمهم العرق، فرحماك ربنا رحماك، ففي حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي   قال: ((سبعة يظلهم الله – تعالى – في ظله يوم لا ظل إلا ظله،إمام عدل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه))7.

صور من بكائه – عليه الصلاة والسلام -:

كان النبي  سريع الدمعة، كثير البكاء من خشية الله – تبارك وتعالى -، وسوف ننقل موقفين له  :

الأول: عن عطاء – رضي الله عنه – قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة – رضي الله عنها – فقالت لعبيد بن عمير: “قد آن لك أن تزورنا فقال: أقول يا أمه كما قال الأول:”زر غباً تزدد حباً”، قال: فقالت: دعونا من رطانتكم هذه، قال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله  ؟ قال: فسكتت ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي قال: ((يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي)) قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما سرك قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلَّ الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: (( أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت علي الليلة آية ويللمن قرأها ولم يتفكر فيها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}8الآية كلها))9.

والآخر: عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال لي النبي  : ((اقرأ علي))، قلت: آقرأ عليك أنزل؟ قال: ((فإني أحب أن أسمعه من غيري))، فقرأت عليه سورةالنساء حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً}1011.

صور من بكاء السلف – رضوان الله عليهم -:

حيث أنهم كانوا كثيري البكاء من خشية الله، وهذه بعض المواقف التي تؤيد ذلك:

فعن أنس – رضي الله عنه – قال: خطب رسول الله   خطبة ما سمعت مثلها قط قال: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً))، قال: فغطى أصحاب رسول الله   وجوههم لهم خنين، فقال رجل: من أبي؟ قال: ((فلان)). فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَتَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}1213, وعن قيس بن أبي حازم قال: “كان عبد الله بن رواحة – رضي الله عنه – واضع رأسه في حجر امرأته، فبكى فبكت امرأته، قال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إني ذكرت قول الله {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}14فلا أدري أنجو منها أم لا”15.

وعن عمار أبو المعتمر قال: سمعت بشر بن منصور قال: قلت لعطاء السليمي: “يا عطاء ما هذا الحزن؟ قال: “ويحك الموت في عنقي، والقبر بيتي، وفي القيامة موقفي، وعلى جسرجهنم طريقي، وربي لا أدري ماذا يصنع بي، ثم تنفس فغشي عليه، فترك خمس صلوات فلما أفاق فقال: إذا ذهب عقلي علي شيئاً؟ ثم، فغشي عليه صلاتين16“.

أخي في الله: هذا حال سلفنا الكرام – رضوان الله عليهم -, فما حالي وحالك؟ هل ذكرت الله في يوم من الأيام ففاضت عيناك؟ هل ذكرت ذنوبك فبكيت ندماً على ما فرطت في جنب الله – تبارك وتعالى -, علينا أن نراجع أنفسنا، ونفتش عن السبب الذي حال بيننا وبين خشية الله – تبارك وتعالى -، ونتوب إلى علام الغيوب حتى تزول تلك القسوة من قلوبنا.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يبعد عن القسوة التي في قلوبنا، وأن يتوب علينا بمنِّه وكرمه, والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 سورة الإسراء (107-109).

2 سورة الحديد (16).

3 سورة مريم (58).

4 رواه الترمذي في سننه برقم (1639)؛ وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (1338)؛ وقال الألباني: صحيح لغيره في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1229)؛ وقال في تحقيق مشكاة المصابيح صحيح برقم (3829).

5 سنن الترمذي برقم (2311)؛ والنسائي برقم (3108)؛ وقال الألباني: صحيح لغيره في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1269), ورقم (3324).

6 رواه ابن حبان في صحيحه برقم (640)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن؛ وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2666).

7 رواه البخاري في صحيحه برقم (1357)؛ ومسلم برقم (1031).

8 سورة آل عمران (190).

9 رواه ابن حبان في صحيحه برقم (620)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم؛ والبيهقي في السنن الكبرى برقم (20019)؛ وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (48).

10 سورة النساء (41).

11 رواه البخاري في صحيحه برقم (4306)؛ ومسلم برقم (800).

12 سورة المائدة (101).

13 رواه البخاري في صحيحه برقم (4345)؛ ومسلم برقم (2359).

14 سورة مريم (71).

15 رواه الحاكم في المستدرك برقم (8748)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه؛ تفسير الطبري (8/364)؛ وتفسير ابن كثير (3/178)؛ ومعارج القبول (2/851).

16 الهم والحزن لعبد الله بن محمد أبو بكر القرشي (100).