نعيم القبر وعذابه

 

نعيم القبر وعذابه

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، أما بعد:

فإن الله تبارك وتعالى خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له، والكفر بكل ما سواه من الأنداد والأضداد، فمن اتبع هدى الله تعالى ودينه وعبده وحده فاز بأعلى المقامات وأشرف الدرجات، ومن عصاه وخالف أمره أوبقه الله في أسفل الدركات ومستقر الحسرات والندامات، نعوذ بالله من ذلك، وإن أول موقف يجازى به الناس على أعمالهم بعد الموت هو القبر، فالمؤمنون منعمون فيه، والكفار والفجار معذبون، وهذا الأمر مما أجمع عليه أهل الملة ولم يخالف إلا قلة ممن أعمى الله بصيرته، فخالف كتاب ربه وسنة نبيه وجعل كتاب الله وراءه ظهرياً، واستدل بأقوال الفلاسفة وأهل المنطق الجاهلين بالله رب العالمين.. أما المسلم الحق فإنه المؤمن بلقاء الله ونعيمه وعذابه من أول وهلة في قبره، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل النعيم المقيم.

ومن الأدلة على عذاب القبر ونعيمه ما ذكره الله تعالى في كتابه في مواضع عدة، فمن ذلك:

الأول: قوله تعالى عن آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (46) سورة غافر، فبيَّن الله تعالى أن آلفرعون يُعرضون على العذاب صباحاً ومساء مع أنهم ماتوا، والغدو والعشي إنما يكون في  الدنيا.

ومن هذه الآية أثبت العلماء عذاب القبر.

قال ابن كثير: “وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور وهي قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا}.1

الثاني: قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} (124) سورة طـه.

قال أبو هريرة: يعني عذاب القبر.

الثالث: حديث عائشة زوج النبي   أن رسول الله   كان يدعو في الصلاة: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم).2

والشاهد من الحديث: أن النبي   كان يستعيذ من عذاب القبر وهو من أدلة إثبات عذاب القبر ولم يخالف في إثبات عذاب القبر إلا المعتزلة وطوائف أخرى لايعبأ بخلافهم.

الرابع: روي أن النبي   قال لعمر رضي الله عنه: (كيف بك يا عمر بفتاني القبر إذا أتياك يحفران بأنيابهما ويطآن في أشعارهما أعينهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالرعد القاصف، معهما مزربة لو اجتمع عليها أهل منى لم يقلوها) قال عمر وأنا على ما أنا عليه اليوم؟!، قال: (وأنت على ما أنت عليه اليوم) قال: إذاً أكفيهما إن شاء الله”.قال وكان عبيد بن عمير يقول: نعم ذلك منكر ونكير3

“قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في كتابه اعتقاد أئمة أهل الحديث: “ويقولون –أي أهل السنة- إن عذاب القبر حق يُعذِّب الله من استحقه إن شاء وإن شاء عفا عنه، لقوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}(46) سورة غافر، فأثبت لهم ما بقيت الدنيا عذاباً بالغدو والعشي دون ما بينهما، حتى إذا قامت القيامة عُذبوا أشد العذاب بلا تخفيف عنهم كما كان في الدنيا، وقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}، يعني قبل فناء الدنيا، لقوله تعالى: بعد ذلك: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}(124) سورة طه، بيَّن أن المعيشة الضنك قبل يوم القيامة.

وفي معاينتنا اليهود والنصارى والمشركين في العيش الرغد والرفاهية في المعيشة ما يُعلم أنه لم يرد به ضيق الرزق في الحياة الدنيا لوجود مشركين في سعة من أرزاقهم،وإنما أراد به بعد الموت قبل الحشر.”4

الخامس: من الآيات التي استدل بها أهل السنة على إثبات عذاب القبر قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (27)سورة إبراهيم.

وقد استدل بها النبي   على إثبات عذاب القبر، فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث البراء بن عازب وفيه (المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} (27) سورة إبراهيم.5

السادس: ما رواه الإمام أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: خرجنا مع النبي   في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد، فجلس رسول الله   وجلسنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: (استعيذوا بالله من عذاب القبر) مرتين أو ثلاثاً، إلى قوله  : (فتعاد روحه في جسده, فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هو رسول الله . فيقولان له: وما علمك؟ فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي) وفي رواية (أن قد صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة) قال: (فيأتيه من ريحها وطيبها، فيفسح له في قبره مد بصره) قال: (ويأتيه رجل حسن الوجه،حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد….) هذا في حق المؤمن.

أما في حق الكافر: قال: (… فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. فينادي منادٍ من السماء: أن كذب، فافرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد..).6

السابع: وقول النبي  : (إن أحدكم إذامات عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة).7

والأحاديث في إثبات عذاب القبر كثيرة متواترة، قال الشيخ عبد الغني المقدسي في عقيدته: رواه عن النبي اثنا عشر صحابياً، وخالف جمهور أهل السنة في ذلك ضرار بن عمر وبشر المريسي وأكثر المتأخرين من المعتزلة.8

ومن أقوال السلف في ذلك ما ورد عن هانئ مولى عثمان بن عفان قال: كان عثمان بن عفان-رضي الله عنه- إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فيقال له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا؟ فقال: سمعت رسول الله  يقول: (إن القبر أول منازل الآخرة فمن نجا منه فما بعده أيسر منه، ومن لم ينج منه فما بعده أشد منه) قال: فقال عثمان -رضي الله عنه-: ما رأيت منظرا قط إلا والقبر أفظع منه.9

وقوع نعيم القبر وعذابه على الروح والجسد معاً:

نعيم القبر وعذابه يكون للروح والبدن جميعاً، فتنعم الروح أو تعذب متصلة بالبدن فيكون النعيم والعذاب عليهما جميعاً كما أنه قد تنعم الروح أو تعذب أحياناً منفصلة عن البدن، فيكون النعيم أو العذاب للروح منفرداً عن البدن.

وقد دلت على هذا النصوص وعليه اتفق أهل السنة والجماعة، خلافاً لمن زعم أن عذاب القبر ونعيمه يكون للروح فقط على كل حال ولا يتعلق بالبدن.

فمن الأدلة على ذلك حديث أنس بن مالك الذي أخرجه البخاري أن رسول الله   قال: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل -لمحمد فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة فيراهما جميعاً.

وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين).10

وفي حديث البراء بن عازب الطويل الذي أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وغيرهم مرفوعا للنبي   قال بعد أن ذكر خروج الروح وصعود روح المؤمن إلى السماء: (فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك)11 الحديث، وقد صحح هذا الحديث الحاكم وغيره.

فدل الحديثان على وقوع النعيم أو العذاب في القبر على الروح والجسد جميعاً ففي قول النبي  : (إن العبد إذا وضع في القبر) دلالة ظاهرة على هذا إذ لفظ (العبد) مسمى للروح والجسد جميعاً، وكذلك تصريحه بإعادة الروح إلى الجسد عند السؤال كما في حديث البراء بن عازب هذا مع ما جاء في الحديثين من الألفاظ التي هي من صفات الجسد كقوله: (يسمع قرع نعالهم)، (فيقعدانه)، (ويضرب بمطارق من حديد) (فيصيح صيحة)، فإن هذا كله يفيد أن ما يحصل في القبر من النعيم أو العذاب متعلق بالروح والجسد جميعهما.

هذا مع أنه قد جاء في بعض النصوص ما يفيد أن النعيم أو العذاب قد يقع على الروح منفردة في بعض الأحوال على ما جاء في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:قال رسول الله  : (لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها، و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق؛ لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يتكلوا عند الحرب؟ فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، قال فأنزل الله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} إلى آخر الآية(169) سورة آل عمران)12.

فتلخص من هذا أن النعيم والعذاب يقع على الروح والجسد جميعاً في القبر وقد تنفرد الروح بهذا أحياناً.

قال بعض الأئمة المحققين في السنة في تقرير هذه المسألة: “والعذاب والنعيم على النفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن، وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعتين كما يكون للروح منفردة عن البدن”.13

شبهة:

إن اعترض معترض فقال: “فنحن نشاهد الميت على حاله في قبره، فكيف يسأل ويقعد ويضرب بمطارق من حديد ويعذبه ولا يظهر له أثر؟

فالجواب: أن ذلك غير ممتنع، بل له نظير في العادة وهو النائم فإنه يجد لذة وآلاماً لا نحس نحن شيئا منها. وكذا يجد اليقظان لذة وألماً لما يسعه أو يفكر فيه ولا يشاهد ذلك جليسه منه.وكذا كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره بالوحي الكريم ولا يدركه الحاضرون وكل هذا واضح ظاهر جلي.14

هذا بعض ما تيسر جمعه في هذا الموضوع، ونسأل الله تعالى أن يعيذنا من عذاب القبر، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


1 تفسير ابن كثير (4/82).

2 رواه البخاري (798) ومسلم (589).

3 رواه عبد الرزاق في مصنفه (6738).

4 اعتقاد أئمة الحديث (1/69).

5 رواه البخاري (1303).

6 رواه الإمام أحمد (18557) قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح.

7 رواه البخاري (1379).

8 الإنصاف للباقلاني – (1/15).

9 رواه الترمذي (2308)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: (1684).

10 رواه البخاري برقم (1308).

11 (1) مسند الإمام أحمد برقم (18557)، وسنن أبي داود برقم (4753)، والمستدرك: (107)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/219).

أخرجه أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك 2 / 88، 297، وصححه ووافقه الذهبي.

12 رواه أبو داود (2520) والإمام أحمد (2388) وغيرهما، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، حديث رقم: (5205).

13 أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة – (1/301-303).

14 طرح التثريب، لزين الدين عبد الرحيم العراقي (ج 4 / ص 326)