حب الله ورسوله

حـب الله ورسـوله

الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مكور الليل على النهار، تذكرةً لأولي القلوب والأبصار، وتبصرةً لذوي الألباب والاعتبار، الذي أيقظ مِن خلقه مَن اصطفاه فزهدهم في هذه الدار، وشغلهم بمراقبته وإدامة الأفكار، وملازمة الاتعاظ والادكار، ووفقهم للدأب في طاعته، والتأهب لدار القرار، والحذر مما يسخطه ويوجب دار البوار، والمحافظة على ذلك مع تغاير الأحوال والأطوار، أحمده أبلغ حمدٍ وأزكاه، وأشمله وأنماه، وأشهد أن لا إله إلا الله البر الكريم، الرؤوف الرحيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، الهادي إلى صراط مستقيم، والداعي إلى دين قويم، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى سائر النبيين، وآل كلٍ، وسائر الصالحين1، أما بعد:

“فإن الله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبته مع الخضوع له، والانقياد لأمره، فأصل العبادة محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه كما نحب أنبياءه، ورسله، وملائكته، وأولياءه، فمحبتنا لهم من تمام محبته وليست محبة معه كمحبة من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبه. وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها فهي إنما تتحقق باتباع أمره، واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر، واجتناب النهي؛ تتبين حقيقة العبودية والمحبة؛ ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علماً عليها، وشاهداً لمن ادعاها فقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ (سورة آل عمران:31)، فجعل اتباع رسوله مشروطاً بمحبتهم لله وشرطاً لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه، وتحققه بتحققه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة، فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل إذاً ثبوت محبتهم لله، وثبوت محبة الله لهم؛ بدون المتابعة لرسوله .

ودل على أن متابعة الرسول  هي حب الله ورسوله، وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما، فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله، ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه ألبتة ولا يهديه الله قال الله تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (سورة التوبة:24)، فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم ورجاءه، والتوكل عليه؛ على خوف الله ورجائه، والتوكل عليه، أو معاملة أحدهم على معاملة الله؛ فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن قاله بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بخلاف ما هو عليه، وكذلك من قدم حكم أحد على حكم الله ورسوله، فذلك المقدم عنده أحب إليه من الله ورسوله، لكن قد يشتبه الأمر على من يقدم قول أحد أو حكمه، أو طاعته أو مرضاته ظناً منه أنه لا يأمر، ولا يحكم، ولا يقول إلا ما قاله الرسول ، فيطيعه ويحاكم إليه، ويتلقى أقواله كذلك؛ فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك، وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول، وعرف أن غير من اتبعه هو أولى به مطلقاً أو في بعض الأمور، ولم يلتفت إلى الرسول ولا إلى من هو أولى به؛ فهذا الذي يخاف عليه، وهو داخل تحت الوعيد، فإن استحل عقوبة من خالفه وأذله ولم يوافقه على اتباع شيخه فهو من الظلمة المعتدين، وقد جعل الله لكل شيء قدراً”.2

أيها المسلمون:

إنه لن يذوق أحد حلاوة الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما كما ثبت عن أنس بن مالك أن النبي قال: ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار3.

ولا يكون الإنسان مؤمناً حتى يحب الله جل وعلا، ورسوله  أشد ما يحب غيره كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ (سورة البقرة:165)، فمن ساوى محبة أي شيء مع محبة الله فقد أشرك، وإنما الإيمان أن تحب الله فوق كل شيء، ولهذا ثبت في الحديث عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين4.

وأعظم ما يعد الإنسان ليوم القيامة حب الله ورسوله كما في حديث أنس بن مالك  أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: وما أعددت للساعة؟ قال: حب الله ورسوله، قال: فإنك مع من أحببت قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي : فإنك مع من أحببت، قال أنس: فأنا أحب الله، ورسوله، وأبا بكر، وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم5.

فانظر رحمك الله تعالى إلى تواضع هذا الصحابي الجليل في إنزال نفسه عمن ذكر من الصالحين وهو من أحباب رسول الله ، وإنك لتعجب من أحدنا عندما يرى نفسه أنه يحب الله ورسوله وهو يعمل الموبقات، ويجتنب الصالحات، فالعياذ بالله من اجتماع الأمن من مكر الله مع البعد عنه .

أيها الناس: إن لمحبة الله – تعالى – ورسوله  مظاهر ودلائل تظهر على الإنسان فلا يكفي ادعاء الحب والنفس بعيدة كل البعد عن دين الله تعالى، ومن أبرز تلك المظاهر:

الاستقامة على شريعة الله تعالى: وذلك بطاعة الرسول  في كل أوامره الواجبة، فإن زاد إلى ذلك المستحبة فهي تدل على قوة المحبة وتأصلها، واجتناب ما عنه نهى وزجر، قال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ، فاتباع النبي  في هديه، وسنته، وسلوكه؛ أظهر دليل على حب الله ورسوله.

ومن مظاهر محبة الله ورسوله: صدق الحديث، وحفظ الأمانة وأداؤها، وحسن الجوار، فعن أبي قراد السلمي قال: كنا عند رسول الله ﷺ، فدعا بطهور، فغمس يده فيه، ثم توضأ، فتتبعناه، فحسوناه، فقال رسول الله : ما حملكم على ما صنعتم؟ قلنا: حب الله ورسوله، قال: فإن أحببتم أن يحبكم الله ورسوله فأدوا إذا ائتمنتم، واصدقوا إذا حدثتم، وأحسنوا جوار من جاوركم6

ومن علامات حب الله ورسوله: حب المؤمنين، وتوليهم، وبغض الكافرين ومعاداتهم، ومجاهدتهم في سبيل الله لا يخاف المرء في ذلك لومة لائم كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (سورة المائدة:54).

وفي الحديث أن النبي  قال يوم خيبر: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه7، فأعطاها علي بن أبي طالب  الأسد الضرغام، والشجاع المقدام الذي قاتل اليهود، فنصره الله وهزمهم.

اللهم ارزقنا حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يقربنا إليك، اللهم توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم. الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظفر بالمحبوب سبيلاً، ونصب طاعته والخضوع له على صدق المحبة دليلاً، وحرك بها النفوس إلى أنواع الكمالات إيثاراً لطلبها وتحصيلاً، وأودعها العالم العلوي السفلي لإخراج كماله من القوة إلى الفعل إيجاداً وإمداداً وقبولاً، وأثار بها الهمم السامية، والعزمات العالية إلى أشرف غاياتها تخصيصاً لها وتأهيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله أفضل ذكر، وأعظم قيلاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه،. أما بعد:

أيها المسلمون:

ومن علامات حب الله ورسوله: الغيرة على دين الله وحرماته، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى دين الإسلام.

“فالغيرة لله أن يكره ما يكره، ويغار إذا عصي محبوبه، وانتهك حقه، وضيع أمره، فهذه غيرة المحب حقاً، والدين كله تحت هذه الغيرة، فأقوى الناس ديناً أعظمهم غيرة، وقد قال النبي  في الحديث الصحيح: أتعجبون من غيرة سعد! لأنا أغير منه، والله أغير مني (رواه البخاري ومسلم)، فمحب الله ورسوله يغار لله ورسوله على قدر محبته وإجلاله، وإذا خلا قلبه من الغيرة لله ولرسوله فهو من المحبة أخلى، وإن زعم أنه من المحبين فكذب من ادعى محبة محبوب من الناس وهو يرى غيره ينتهك حرمة محبوبه، ويسعى في أذاه ومساخطه، ويستهين بحقه، ويستخف بأمره؛ وهو لا يغار لذلك، بل قلبه بارد! فكيف يصح لعبد أن يدعي محبة الله وهو لا يغار لمحارمه إذا انتهكت! ولا لحقوقه إذا ضيعت! وأقل الأقسام أن يغار له من نفسه، وهواه، وشيطانه، فيغار لمحبوبه من تفريطه في حقه، وارتكابه لمعصيته، وإذا ترحَّلت هذه الغيرة من القلب ترحَّلت منه المحبة، بل ترحَّل منه الدين وإن بقيت فيه آثاره، وهذه الغيرة هي أصل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي الحاملة على ذلك، فإن خلت من القلب لم يجاهد، ولم يأمر بالمعروف، ولم ينه عن المنكر، فإنه إنما يأتي بذلك غيرة منه لربه؛ ولذلك جعل الله  علامة محبته ومحبوبيته الجهاد فقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (سورة المائدة:54)“.8

عباد الله:

اعلموا أنه “من أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله، ويكره ما يكرهه الله ورسوله، ويرضى ما يرضي الله ورسوله، ويسخط ما يسخط الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئاً يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله، أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه، والقدرة عليه؛ دل ذلك على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة.

قال أبو يعقوب النهرجوري: “كل من ادعي محبة الله تعالى ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطلة، وكل محب ليس يخاف الله فهو مغرور”، وقال يحيى بن معاذ: “ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده”. وسئل رويم عن المحبة فقال: الموافقة في جميع الأحوال، وأنشد:

ولو قلت لي مُتْ متُّ سمعاً وطاعة وقلت لداعي الموت أهلاً ومرحباً

ولبعضهم:

تعصي الإله وأنت تزعم حبه! هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صـادقاً لأطعته إن المحب لمن يحـب مطيع

فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه فقال تعالى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين (سورة القصص:50)، وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع؛ ولهذا يسمي أهلها أهل الأهواء، وكذلك المعاصي إنما تقع من تقديم الهوى على محبة الله ورسوله، ومحبة ما يحبانه، وكذلك حب الأشخاص الواجب فيه أن يكون تبعاً لما جاء به الرسول .

فيجب على المؤمن محبة الله، ومحبة من يحبه الله من الملائكة، والرسل، والأنبياء، والصديقين، والشهداء، والصالحين عموماً”.9

نسأل الله التوفيق لما يحبه ويرضاه. وأن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح.. اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.

اللهم انصر دينك وعبادك المجاهدين في سبيلك باللسان والبنان والسنان، اللهم كن معهم ظهيراً ومعيناً، ولا تتركهم إلى شرار خلقك، اللهم إنا نرغب إليك بإصلاح واقع المسلمين في كل مكان، أصلح شباب المسلمين وفتياتهم، ورجالهم ونسائهم، وأولادهم وشيوخهم، وعلمائهم وحكامهم .. إنك أنت القوي القدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل.


1 مقدمة النووي لرياض الصالحين.

2 مدارج السالكين، لابن القيم  (1 /99-100).

3 رواه البخاري ومسلم.

4 رواه البخاري ومسلم.

5 رواه البخاري ومسلم.

6 المعجم الأوسط للطبراني (ج 14 / ص 283) برقم (6705)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1409).

7 رواه البخاري ومسلم.

8 روضة المحبين، لابن القيم (1/273-274). بتصرف.

9 جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي (1/390).