باسم الله رب الغلام

 

 

باسم الله رب الغلام

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، أما بعد:

فإن الله ​​​​​​​ إذا رأى من عباده من يظلم ويطغى، ويستعبد الناس، ويترك عبادة رب العالمين يسر له من يقيم عليه الحجج والبراهين في الدنيا، حتى إذا أعذر إليه الله ​​​​​​​  ولم يستجب ويتُب أخذه أخذ عزيز مقتدر.

وقد ضرب الله ​​​​​​​  للمؤمن أمثلة في كتابه وفي سنة رسوله ، فهذه قصة شيقة جداً، قصة الغلام المؤمن والراهب وأصحاب الأخدود، ندرسها اليوم معكم ونأخذ منها الفوائد والعبر والدرر، وقد رواها مسلم والنسائي وغيرهما في كتبهم عن الصحابي الجليل صهيب الرومي.

ولنترك الراوي يحدثنا عن أحداث هذه القصة، فعن صهيب الرومي   قال: قال رسول الله  : (كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب،فقال: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم آلساحر أفضل، أمالراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر  فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره،فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى،فإن ابتليت فلا تدل علي.

وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال:ربي، قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجئ بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار على مفرق رأسه، فشقه حتى وقع شقاه، ثم جئ بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جئ بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل،فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور1 فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت2 بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال:كفانيهم الله، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال:تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم، فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأتى الملك، فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخُدَّت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست3 أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه اصبري، فإنك على الحق).4

هذا الحديث من أجمل القصص التي يمكن أن يسمع بها إنسان، الذي رواها لنا رسول الله   الوحي المصدق عن ربه ​​​​​​​ .

لو أنا أوكلنا كتابة مثل هذه القصة إلى أعظم روائي في العالم فهل يا ترى سيكتب لنا قصة مثل هذه في جمالها ودقتها، وعظم الفوائد المحتوية عليها، ومدى تأثيرها في النفس؟ لا يستطيع أحد مطلقاً، لا يمكن أن يأتي بشر بأجمل مما رواه لنا رسول الله  ، هذه القصص  ليست قصص حكايات، وليست روايات تسلية، هذه قصة مجتمع بأسره، مجتمع حي كان في فترة من الزمان موجوداً على ظهر الأرض.

وقد جاء ذكر هذه القصة في سورة البروج، وهي قوله تعالى: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ*وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ*وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ*قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ*النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ*إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ*وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} (1-7) سورة البروج.. إلى آخر الآيات.

يا إخواني! ابتلينا في هذه الأيام بروايات سخيفة وقصص ماجنة، يُقبل عليها الكبار والصغار، يقرءون قصصاً، وفيها فسادٌ عظيم، وفي بعضها خرافات وشعوذات تفسد واقعية الأطفال، لذلك كان مما يُنصح به لكل أب لديه طفل، لكل أخ أو أخت لديه أخ أصغر منه أن يقرأ عليه هذه القصة حتى قبل أن ينام، حتى لو قبل النوم يقرؤها عليه، أو أن يجزئها له.5

من فوائد الحديث

في هذا الحديث العظيم فوائد وعبر كثيرة، منها:

1. أن هذه القصة تمثل دعوة كاملة من بدايتها إلى نهايتها، ابتداءً من مرحلة الاستضعاف،لما كان الحق لا يعرفه إلا شخص واحد فقط، وحتى نهاية القصة وهي مرحلة إيمان الناس كلهم، الذين آمنوا في آخر القصة، مروراً بالمرحلة السرية التي طلب فيها الراهب من الغلام أن يكتم خبره، ومروراً بالمرحلة العلنية وهي أن يصدع الغلام بالحق على الناس كافة. كذلك فيها تنوع الأساليب من الفردية إلى الجماعية، وغير ذلك، فيحتاج أصحاب الدعوات لدراسة هذه القصص جيداً، هذه القصص التي تمثل واقعاً متكاملاً.

2. أن ذلك الملك كان يستعين على استعباد الناس بالسِّحر والسّحرة فهو لم يكن ملكاً صالحاً مثل سليمان  ، وإنما كان كافراً، وكان يستخدم هذا الملك في استعباد الناس السحر والشعوذة والتضليل والخرافات للسيطرة على عقول الناس، وهذا الساحر واحد من أعوان الباطل الذين كانوا يساعدون هذا الملك الظالم في استعباد من تحته من الرعية.

3. ونستفيد أيضاً كيف نوجه الطاقات النادرة والذكية إلى خدمة الدين: فالساحر طلب “غلاماً فطناً لقناً” يعني: ذكياً ويفهم بسرعة، فهو حريص على انتقاء العينات من الأطفال الذين لهم استعداد للفهم السريع؛ ليعلموهم الباطل، أفلا يكون أحرى بنا نحن المسلمين أن نوجه الطاقات النادرة في بعض الأطفال إلى وجهات الخير، فيوجهون إلى حفظ القرآن، ونعلمهم شرع الله ​​​​​​​ ، ونعلمهم الأشياء المفيدة حتى الأشياء الدنيوية،نوجه طاقاتهم، نوجه هذه العقلية الجبارة التي تكون موجودة في بعض الأطفال إلى معرفة الحق، ودراسة الحق والتمرن والسير عليه وتطبيقه.6

4. نستفيد كذلك أن أهل الباطل يحرصون على تعليم ما تعلموه –بالمجَّان-، بينما نحن المسلمين نبخل على أنفسنا في تعليم الحق الذي علمنا الله تعالى.

5. أن زيف ذلك الملك ظهر عند أول امتحان، فإنه ما سُلّط على الغلام، ولا استطاع قتله حتى اتّبع تعليماته. والعجب يزيد عندما يدّعي ملك الربوبية ولا يستطيع قتل غلام واحد حتى يفعل ما يأمره به الغلام!!.

6. أن القرآن الكريم لا يعرض علينا صورة من الماضي نتسلى بها، ولا يعرضها على المؤمنين ليتعزوا بها فقط إذا ابتلوا، وإنما يعرضها علينا ليكشف لنا عن النهج الطاغوتي في مواجهة المؤمنين، وليبين لنا أن الطواغيت لا تتردد مطلقاً في أن تعمد إلى أبشع الوسائل لسحق الإيمان إذا شعرت أنه يعرض طاغوتيتها للخطر، وهو يكشف لنا في نفس الوقت عن حجم الإيمان المطلوب ليكافئ هذا الخطر الطاغوتي ويواجهه، وهذا الإيمان المطلوب ليس هتافاً تشق به الحناجر عنان السماء، ولا هو كلمات لاهبة تصب لعناتها على الطغاة، إنه ثمرة جهد صبور معين واعٍ في التعليم والإعداد والتربية، والذين عاينوا وجربوا وواجهوا يعلمون علم اليقين أي نوع من الإيمان، وأي قدر من الإيمان هو المطلوب لمواجهة المحارق التي يَستنزل هَوْلها الحليم من علياء حلمه، ويستخرج الجلد الصبور من جلده وصبره.7

7. انتصار المبدأ: للمؤمنين مفهوم خاص للنصر، فانتصارهم مرتبطٌ بدينهم، فانتصار المؤمن انتصار دينه، وانتصار دينه انتصاره، إنه لا معنى عند المؤمنين لنصر لا يعز الله فيه الدين، وإنه لمعنى جلي للنصر ذلك اليوم الذي يدخل الناس فيه في دين الله أفواجاً،فحين ذكر الله أصحاب الأخدود الذين أحرقوا كل المؤمنين قال الله عن نهاية الطائفة المؤمنة : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا..} (11)سورة البروج، فسمى نهايتهم فوزاً ووصف هذا الفوز بأنه كبير، أيُّ تميز للمؤمن بهذا المعنى العزيز المتفرد؟!

إن البشرية لتقف صاغرةً أمام هذا المعنى الضخم الكبير {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}. إنه معنى لا يزعزعه التهديد ولا الترغيب، إنه معنى يوجه المؤمن نحو إيمانه وعمله الصالح، وأن يكون ذلك محط نظره الأول، وأن تكون أولويات حياته منطلقة من هذا الهدف من أجل تحقيق الفوز الكبير، وهذا حرام بن ملحان   غلب عليه هذا المعنى،فلم يجد ما يفوه به بعد أن طُعن إلا أن يقول : “فزت ورب الكعبة”8.9

8. كفاية الله لعبده المؤمن، وحفظه لمن حفظه.

9. بقاء الحق وظهوره ما بقي له بصيص أمل، ويتمثل ذلك في وجود راهب واحد.

10. عدم المساومة على قضية الإيمان، ولو كان الثمن هو النفس والنفيس، فالراهب وجليس الملك لم يرجعا عن دينهما ولو شُق كل واحد منهما إلى شقين.

11. عدم رجوع الناس عن الإيمان بعد أن ذاقوا حلاوته، ولو أدّى ذلك إلى فتنتهم وحرقهم بالنار.

12. هذا الحديث فيه إثبات كرامات الأولياء، حيث قتلت الدابة بحجرة صغيرة.

13. وفيه جواز الكذب في حال المصلحة، وذلك عندما قال: (إذا  خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر).

14. فيه إنقاذ النفس من الهلاك، سواء نفسه أو نفس غيره ممن له حرمة. وذلك عندما قتل الغلام الدابة التي تقف في طريق الناس.إلى غير ذلك من الدروس والعبر التي لا تنقضي.

أيها الإخوة المسلمون: هذه قصة عظيمة من قصص القرآن العظيم والذي ينبغي علينا قراءة مثل هذه القصص للاستفادة منها، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (111) سورة يوسف.

فلنأخذ من معينه الصافي، ونستقي من علمه الوافي، لنعتبر بما مضى ولا يعتبر بنا من خلف.

هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


1 القرقور: السفينة الصغيرة.

2 انكفأت: أي انقلبت.

3 فتقاعست: أي توقفت، ولزمت موضعها وكرهت الدخول في النار.

4 رواه مسلم (3005).

5 نقلاً عن موقع الصوتيات والمرئيات الإسلامي.

6 من مقال للشيخ محمد المنجد في شرحه للقصة، المصدر: موقع الصوتيات والمرئيات الإسلامي، بتصرف.

7 مجلة البيان – العدد 9 ص30 – ربيع الآخر 1408هـ.

8 رواه البخاري (2647) ومسلم (677).

9 مجلة البيان – العدد: 190 ص28: جمادى الآخرة:1424هـ.