من أدعية الصالحين في القرآن الكريم

من أدعية الصالحين في القرآن الكريم

الشيخ/ محمد صالح المنجد

عناصر الخطبة:

1.   القرآن يقص جانباً من دعاء موسى عليه السلام.

2.   دعاء داود والترتيب العظيم في إيراده.

3.   قوة الرجاء بالله والافتقار إليه ملموس في أدعية الأنبياء.

4.   تلطف عيسى عليه السلام في دعائه وأدبه.

5.   أدعية علمها الله خليله عليه الصلاة والسلام في القرآن الكريم.

6.   من أدعية الصالحين في القرآن.

7.   أدعية المؤمنين حال الشدة وتسلط الأعداء كما حكاها القرآن.

8.   المناجاة من شأن أرباب الفطر السليمة والإشارة إلى نهاية الطغاة.

 

الخطبة الأولى :

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

القرآن يقص جانباً من دعاء موسى عليه السلام

فإن في أدعية الصالحين مما قص الله علينا في القرآن الكريم لعبرة عظيمة للمؤمنين، وهذا الفقه العظيم من أولئك النفر الكرام من الأنبياء والصالحين فيه قدوة لعباد الله في أدعيتهم، وإن المؤمن ليرى في أدعية هؤلاء الأنبياء والصالحين المعاني العظيمة، والعبودية الكاملة لله عز وجل.

إن أدعيتهم رفعت في السراء والضراء في الشدة والرخاء للحي القيوم ديان السماوات والأرضين.

فهذا موسى عليه السلام لما ابتلي بفرعون، واشتد أذى فرعون على قوم موسى عليه السلام، وطالت تلك المناظرات والمواجهات بين هذا النبي الكريم وعدو الله فرعون، رفع موسى يديه يدعو ربه {إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (سورة يونس:89).

وهكذا كان القرار الأخير بعد استنفاذ كافة الوسائل في الدعوة، لما صارت البيوت المزخرفة، والأموال العظيمة، والمراكب الفاخرة، صارت فتنة لهؤلاء القوم، يستعينون بما آتاهم الله على معصيته وعلى فتنة عباده، وعلى الإفساد في الأرض، دعا موسى أن يتلفها الله عز وجل إما بهلاك الذين يستعملونها، أو بجعل هذه الأموال على وجه لا ينتفع به، فقال ذلك الدعاء.

لقد كان موسى عليه السلام حريصاً ألا يزداد أولئك القوم في الطغيان لأمرين؛..

أولهما: لأن زيادتهم في الطغيان زيادة لعذابهم.

وثانيهما: أن في زيادة طغيانهم فتنة للمؤمنين، والمحافظة على المؤمنين ووقاية هؤلاء المؤمنين من فتنة الكافرين والطاغين أمر مهم للغاية يحرص عليه موسى عليه السلام، وكانت أذية بني إسرائيل بعد ذلك لموسى عليه السلام، وتمردهم عليه، موجبة لشكوى موسى الكليم إلى ربه {قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (سورة المائدة:24)، بهذه الوقاحة يواجهون نبيهم، كأن القوم سيخرجون لهم من البلد ليدخلوها هم برداً وسلاماً، ما كان ذلك ليحصل، ولما حصلت هذه المعصية والتمرد من بني إسرائيل على نبيهم ماذا قال؟ {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} (سورة المائدة:25)، وصل موسى عليه السلام إلى مرحلة صار ليس له كلمة إلا على أخيه، تمرد عليه القوم، وهذا من طبع اليهود. ولذلك دعا عليهم بقوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (سورة المائدة:25). وهكذا قص الله سبحانه وتعالى علينا من خبره مع أخيه مع بني إسرائيل لما عبدوا العجل في غيابه، وتمردوا على هارون الذي قال معتذراً لموسى: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (سورة الأعراف:150-151).

ينظر نبي الله حوله، يتلفت، فلا يجد إلا الواحد والعدد القليل من الناس الذين ثبتوا، والبقية زلوا سقطوا في الفتنة {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} (سورة التوبة:49)، فماذا يقول، وبماذا يدعو لمن ثبت معه؟ قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} (سورة الأعراف:151) أدخلنا فيها، فتكون الرحمة محيطة بهما من كل جانب، فهي حصن حصين، وخير وسرور، وحماية من الشرور.

إلهي أشكو البث والحزن كله  

إليك فكن لي راحماً لشكيتي   

يشتكي موسى إلى ربه، ويدعوه بأن يفرق بينه وبينه القوم الفاسقين، يجعل له هناك فرقاناً، ويجعل له العلو والظفر والظهور عليهم، وهو محتاج إلى رحمة ربه، ومغفرته، يدعو بها ولأخيه، فلا ينسى أخاه.

وهكذا حصل لموسى أيضاً مع بني إسرائيل لما أخذتهم الرجفة، لقد تواقح القوم وتمردوا لدرجة أنهم قالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (سورة البقرة:55) أخذتهم الصاعقة، ماتوا، أخذ الله أرواحهم، وكان من قبل قد حصل لهم أمور وأخذتهم رجفة، ومن بعد نتق الجبل فوقهم، فلما أخذتهم الرجفة {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ} (سورة الأعراف:155) يتوسل إلى ربه بقدرة ربه على الإهلاك وعلى الإماتة، ثم قال: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} (سورة الأعراف:155- 156).

فتأمل في عظمة هذا الدعاء في توجه موسى إلى ربه، يتوسل إليه، يعلن الخضوع والاعتراف بقدرته، وهذا مهم في الدعاء، ويعتذر وكأنه هو المذنب، مع أن أولئك القوم الذين تمردوا عليه هم الذين أجرموا، وفعلوا فعلتهم الشنعاء بعبادة العجل، وموسى يطلب المغفرة لنفسه، أولئك يذنبون وهو يطلب المغفرة، سبحان الله تسليم مطلق لقدرة الله، يقدمه موسى بين دعائه لربه، هي القدرة على الإهلاك {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ} ، { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا}، ثم يدعو ربه أن يكتب له في هذه الدنيا حسنة {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} (سورة الأعراف:156) حسنة الدنيا عظيمة، تشمل العلم النافع، والعمل الصالح، والذكر الجميل، والرزق الواسع، والصحة والذرية الطيبة، هكذا حسنة الدنيا شاملة.

{وَفِي الآخِرَةِ} (سورة الأعراف:156) ظل في العرش، ووقاية من النار، وسلامة في العبور عليها، ودخول الجنة، حسنات، إنها حسنة عظيمة، حسنة الآخرة المتضمنة لكل هذه المزايا.

{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ} (سورة الأعراف:156) ونحن عندنا هذا الدعاء، علمنا الله إياه {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً } (سورة البقرة:201) ومنا من يغفله، والله المستعان.

إن تقديم الاعتذار والاعتراف، وبيان ضعف المخلوق أمام خالقه، وقدرة الخالق على المخلوقين؛ تقديم ذلك بين الدعاء سر عظيم من أسباب الإجابة. {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (سورة القصص:16) {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (سورة القصص:21)، {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (سورة القصص:24)، إظهار الحاجة.

دعاء داود والترتيب العظيم في إيراده

تأمل في حال داود عليه السلام ومن معه من المؤمنين، لما برزوا لجالوت وجنوده أمام ذلك الحشد من الأعداء، العدد والعُدد الجبابرة، {قَالُواْ} أي: عباد الله المؤمنين، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (سورة البقرة:250)، أمام هذا الجحفل من الأعداء، أمام هذا الجحفل من الطغاة يدعو المؤمنون ربهم، ويلجؤون إليه في الشدائد، والله إذا دعاه المضطر لا يخيبه، {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}، إفراغ الشيء على الشيء يدل على تعميمه به، ولذلك فإنهم لم يقولوا: ارزقنا صبراً ونحو ذلك، وإنما قالوا: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا}؛ لأنهم يحتاجون الصبر الآن، يحتاجون صبراً عظيماً، {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}، الإفراغ: صب الشيء الكثير، الإفراغ من أعلى إلى أسفل، إنزال، تعميم، شمول، كثرة. {أَفْرِغْ عَلَيْنَا} فقه في الدعاء، {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، حسن الدعاء والترتيب الجيد فيه، سألوا أولاً الصبر الذي يعم القلب والبدن {أَفْرِغْ عَلَيْنَا}، ثم ثبات القدم المترتب على الصبر {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}، فسألوا التثبيت الظاهر والباطن، ثم النصر المترتب عليهما، والنصر لا ينال إلا مع الصبر، والصبر مجلبة للمعونة، فتأمل الترتيب في هذا الدعاء {ربنا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} ينزل في القلب، {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} نتيجة الصبر في القلب، {وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ثبات القلب وثبات البدن هو المهيئ للنصر، ولذلك سألوا ربهم هذا السؤال، وجعلوا فيه هذا الترتيب.

قوة الرجاء بالله والافتقار إليه ملموس في أدعية الأنبياء

لم يغر  ملك سليمانَ سليمانُ عليه السلام، وإنما قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا} (سورة ص:35)، {رَبِّ اغْفِرْ لِي} تأمل كيف حاجتهم إلى المغفرة وهم الأنبياء، يسألون ربهم المغفرة، وكأنهم أجرموا وأذنبوا الذنوب العظيمة، يسألون مغفرة ورحمة، إنها حاجة المؤمن إلى مغفرة ربه عز وجل، إنه إظهار الافتقار للواحد القهار.

{وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} (سورة الأنبياء:87-88) قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير: {إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا} يعني: من أجل ربه عز وجل، "غضبت لك" يعني: من أجلك، والمؤمن يغضب لله إذا عصي، وكان الأولى أن يصبر فذهب مغاضباً من أجل ربه، وقد أعلن سخطه على قومه مما فعلوا وأصروا وتمردوا وعصوا، فقدر الله أن يلتقمه الحوت {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} إنها لحظات الاضطراب، إنها أوقات الشدة، {نَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} ظلمة بطن الحوت، ظلمة قاع البحر واليم، ظلمة الماء.. ظلمات، أمواج يغشى بعضها بعضاً، وكذلك ظلمة الشدة، وظلمة الوحدة، اجتمعت الظلمات الحسية والظلمات المعنوية، ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الحوت، وظلمة الشدة، وظلمة الوحدة، ولكن لم ييأس يونس أبداً من ربه عز وجل {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} شكا إلى ربه حاله، وتضرع إليه، وتوسل إليه بوحدانيته {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ ثم نزه ربه عما لا يليق به {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} اعترف لله عز وجل بالظلم لنفسه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوة ذي النون إذا دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له))1 في شيء من الحاجات عموماً، ولذلك كانت النتيجة بعد دعائه هذا كما حكاه الله في القرآن بقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}، وإذا كنت في شدة فالله ينقذك منها، وإذا كنت في ظلمة وكربة فالله ينجيك منها.. فهو ملجأ الخائفين، ومجير المستغيثين، ومجيب دعوة المضطرين.. لا إله إلا هو.

وهكذا أنعم الله على يونس؛ لأنه كان المسبحين، فإن سجله الماضي في الطاعات جعل له شفاعة عند ربه، فنجاه الله وأنبت عليه شجرة من يقطين، ورده إلى قومه ليؤمنوا، {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (سورة الصافات: 147- 148).

ولذي النون وقد ناداه من  

ظلمات البحر إذ فيه استقر   

حين نجاه من الغم فهل  

بعد ذا شك لعبد ذي نظر   

{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} (سورة الأنبياء:88)، العمل الصالح يساند الدعاء، الدعاء المبني على عمل صالح مسبق إنه أمر عظيم.

ماذا قال زكريا عليه السلام في أدعية الأنبياء أيضاً؟ {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} (سورة الأنبياء:89)، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (سورة مريم:3-6)، لما تقارب أجله ولم يرزقه الله بولد، هو مسن لا يولد لمثله، وامرأته عاقر لا تنجب، اجتمعت الأسباب الأرضية على عدم الإنجاب، ولكن نبي الله لا ييأس من رحمة الله، وهذا ذكر رحمة ربه له إذ وفقه للدعاء {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا} (سورة مريم:3) أمر يدل على الإخلاص، والإقبال على الله، توسل إلى الله بضعفه، وهذا سر مهم نجده متكرراً في أدعية الأنبياء، يذكرون ضعفهم.. يذكرون افتقارهم.. يذكرون حاجتهم إلى ربهم، {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (سورة مريم:4)، ومع كل هذا {وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (سورة مريم:4)، إنه يعتقد بأن الدعاء سعادة، ولا يمكن أن يشقى العبد مع الدعاء، ولذلك دعا، ودعا وسأل ولم ييأس، مع أن كل الأسباب الأرضية والنتائج والمقدمات وكل البيانات تدل على أنه لا فائدة، ولن يولد له ولد، ولكن {وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} لا يشقى الإنسان من دعاء ربه، لا يعدم خيراً؛ لأن المسؤول كريم {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} (سورة مريم:5)، دعا في جوف الليل {هَبْ لِي} أعطني، الهبة: إحسان بلا مقابل، انتفاع الموهوب بإحسان الواهب، فهو محتاج إلى الهبة الربانية والتي تتمثل في الذرية الطيبة كما في الدعاء الآخر: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} (سورة آل عمران:38)، إنك تجيب سائليك، إنك تسمع أصواتهم مهما كانت ضعفاً وخفاءً، وأنت تعطي ولا تحرم؛ لأنك كريم منان، ولذلك لما سأل، وهب الله له يحيى كما قال سبحانه: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} (سورة الأنبياء:90)، فهو أعطاه أكثر مما سأل، أصلح الله زوجته بعدما كانت عاقراً لا يصلح رحمها للولادة، فأصلح الله رحمها للحمل لأجل نبيه ودعائه، فبشرته الملائكة بذلك.

تلطف عيسى عليه السلام في دعائه وأدبه

عباد الله

هذه من أدعية الأنبياء التي تدل على قوة الرجاء بالله عز وجل، ثم لنتأمل دعوة عيسى عليه السلام، ومن معه، يسألونه آية لزيادة إيمانهم، وتثبيتهم على دينهم.. مائدة من السماء، قال عيسى بن مريم: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سورة المائدة:114). تطمئن قلوبهم كما طلب إبراهيم عليه السلام من قبل ذلك؛ ليكون زيادة في إيمانه، ولما كانت القضية ابتلاء تأدب عيسى عليه السلام غاية الأدب، ينادي ربه يا الله، يا ربنا، قال عيسى بن مريم: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا} فجمع في الدعاء بين ألوهيته تعالى وربوبيته، {اللَّهُمَّ} الميم في قول: {اللَّهُمَّ} بدلاً من ياء النداء المحذوفة قبل لفظ الجلالة، يا الله، {اللَّهُمَّ رَبَّنَا} يعني يا ربنا، وهكذا دعا بالاثنين جميعاً، دعا بألوهية ربه وبربوبيته، يا الله يا ربنا، {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء} فهو يريد التثبيت للحواريين أصحابه، ويريد نعمة لهم وفرحاً وعيداً، {وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}، إنه رزق من الله، وهو خير الرازقين عز وجل، فلا يرزق أحد مثل رزق الله تعالى، ولا يملك أحد مثل رزق الله تعالى، ونجد التبرؤ من الحول والقوة، والاعتراف بأن الله يملك الأمر كله.

في دعاء عيسى عليه السلام {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} (سورة المائدة:118) لست بظالم لهم لو عذبتهم؛ لأنك تملكهم، ومن ملك الشيء يفعل فيه ما يشاء، إن عذبهم فهذا عدل، وإن رحمهم فهو فضل، {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} تفعل فيهم ما تشاء، {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (سورة المائدة:118) أنت أرحم بهم من أنفسهم، وأعلم بأحوالهم منهم، ومغفرتك صادرة عن تمام عزتك وقدرتك، ليس كمغفرة وعفو العاجز الذي لا يقدر، لا، إنها مغفرة صادرة عن تمام العزة والقوة والقدرة، فمع قدرته على الانتقام، ومع قدرته على التعذيب، ومع قدرته على الإهلاك فهو يعفو، وهذا السر وراء ختم هذا الدعاء باسمين العزيز الحكيم، {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}؛ لأن المعتاد أن ينتهي مثل هذا الدعاء فإنك أنت الغفور الرحيم، ولكنه انتهى باسمين عظيمين لله، عجيبين في هذا المقام {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ليست مغفرتك وعفوك صادرة عن ضعف، لكن عند قدرة وقوة، أنت عزيز منيع الجناب، لا يستطيع أحد أن يغلبك، تغلب كل أحد.

وأيوب الذي دعا ربه بأنه أرحم الراحمين، وأنه مسه الضر.

أدعية علمها الله خليله عليه الصلاة والسلام في القرآن الكريم

هكذا نجد الأدعية تتوالى من الأنبياء، ويعلم الله محمداً صلى الله عليه وسلم أدعية أخرى كما ورد في كتاب الله العزيز {وقل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} (سورة المؤمنون:97-98)،  الشيطان له همزات، وهمزات الشيطان هذه الوساوس، وهذا المس، وهذا الأذى، والشر عموماً الذي يكيد به البشر، ولذلك الاستعاذة بالله الحصن الحصين والركن الشديد {رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}؛ لأنهم عدو خفي غير مرئي، عدو خفي لا يرى، فلا بد من الاستعاذة بالله عز وجل الذي يعلم مكان الشياطين، ويعلم شر الشياطين، وكيد الشياطين، وماذا يفعلون، ومتى يفعلون، وبمن يريدون الإيقاع؟ فإذا التجأ المسلم إلى الله الذي يعلم هذه الخفايا والغيوب دفع عنه كيد عظيم وشر كبير.

{وقل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} (سورة المؤمنون:97-98)، لا يحضروني عند طعامي ولا شرابي، ولا نكاحي، ولا أمري، {أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} ولا يحضرون في صلاتي فيشوشون علي خشوعي، لا يحضروني في أي أمر من أموري، أبعدهم يا رب.

وكذلك علم الله نبيه {وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} (سورة المؤمنون:118)، وهكذا دائماً حاجة العباد حتى الأنبياء إلى المغفرة والرحمة، الدعاء بالمغفرة والرحمة، علم الله نبيه دعاءً للزيادة من العلم، {رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (سورة طـه:114)، لم يعلم الله نبيه أن يستزيد من شيء في الأدعية في القرآن إلا العلم {رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}؛ لفضل العلم وشرف العلم ومكانة العلم وحفظ العلم لصاحبه.

العلم خشية الله، العلم الفقه في الدين، هذا العلم الذي ينجي الله به من الظلمات، ويحفظ به من الشبهات، ويثبت به على الصراط المستقيم، ولذلك نسأل ربنا دائماً هذا العلم {رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.

من أدعية الصالحين في القرآن

لقد زخر القرآن الكريم بأدعية للصالحين سوى الأنبياء فضرب الله مثلاً لنا امرأة فرعون، قال تعالى: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (سورة التحريم:11)، كان فرعون يعذبها، ويفتنها عن دينها، لم يمنعها نعيم القصر، ولا ملك المصر، لم يمنعها ذلك الغنى والجاه والمكانة من الالتحاق بركب المؤمنين مع نبي الله موسى عليه السلام، آمنت بموسى فضرب الله هذه المرأة مثلاً للمؤمنين {اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} (سورة التحريم:11)، كملت من النساء آسية بنت مزاحم.

من فقهها في الدعاء أنها طلبت الجار قبل الدار، لما دعت {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا} ولم تقل: بيتاً عندك، فاختارت الجار قبل الدار، سألت الجار قبل الدار، ومن هو الجار هنا؟ الواحد القهار سبحانه وتعالى، فقهر فرعون زوجها الطاغية، وأهلكه.

{رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ} العندية شرف، العندية رحمة، العندية إذا صار الإنسان عند ربه، هنالك في ذلك المقام الكريم، والشرف العظيم حظي بكل خير، {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا} أين؟ {فِي الْجَنَّةِ}، وسقف الجنة عرش الرحمن، فهو عز وجل يتجلى لأهل الجنة من فوقهم، فينظرون إليه فلا يعطون نعمة قط أعظم من النظر إلى وجه ربهم، فتنسيهم لذة النظر كل نعيم في الجنة، من القصور والأنهار والأشجار والطعام والحور العين، الزوجات، إن نعيم رؤية الله تعالى فوق كل نعيم.

اللهم إنا نسألك أن ترزقنا الجنة بمنتك وفضلك يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا وارحمنا، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذي سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربما إنك رؤوف رحيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


 

الخطبة الثانية:

الحمد لله العلي الكبير، أشهد أن لا إله إلا هو و حده لا شريك له السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير.

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، والشافع المشفع يوم الدين. اللهم صل وسلم عليه، وعلى ذريته، وأزواجه، وخلفائه الطيبين. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في زمرتهم يوم الدين، وان تحشرنا معهم يا أرحم الراحمين.

أدعية المؤمنين حال الشدة وتسلط الأعداء كما حكاها القرآن

عباد الله

ولا تزال الأهوال تعصف بالمسلمين من كل جانب، والأدعية في حال الكربات والشدة وتسلط الأعداء كثيرة في القرآن، ومن ذلك دعاء المؤمنين السحرة سابقاً، الذين آمنوا بربهم لاحقاً، واتبعوا موسى عليه السلام لما قال لهم فرعون: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (سورة الأعراف:124-126) مرة أخرى الحاجة للصبر الكثير، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}، ما دامت المسألة مواجهة الفتنة، ومواجهة تقطيع أيدي وأرجل وقتل، فإن المهم الآن الموت على الإيمان، الموت على دين الله الإسلام؛ ولذلك سألوا ربهم فقالوا: {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} يشتكون إلى الله ظلم فرعون، ولكنهم أمام الطاغية لا يأبهون لا ضير، {لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} (سورة الشعراء:50)، الآن أو بعد، الموت حاصل، فإذا صار على طاعة، إذا صار قتلاً بيد الأعداء فهو شهادة، وكذا نفوا عن فرعون أنه يملك الأمر، وقالوا: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا} (سورة الأعراف:126) هذه سبب نقمتك علينا، توجهوا إلى الله بالدعاء عند الشدائد والأهوال.

من ذا إلى عدله أنهي شكاياتي  

سواك يا رافع السبع السموات   

من ذا أرجيه أمن ذا أؤمله  

لما أتاني من البلوى وما يأتي   

من ذا ألوذ به فيما ألم ومن  

أدعوه إن قل صبري في مضراتي   

أشكو إليك أموراُ أنت تعلمها  

فأنت يا رب علام الخفيات   

هيهات ما لي عند الخلق من فرج  

فأنت أنت الذي أرجو لحاجاتي   

ولذلك فإن موسى عليه السلام لما اشتد أذى فرعون على أتباعه، وعلى القلة القليلة الذين كانوا معه الذين حكى الله عنهم بقوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} (سورة يونس:83) ذرية شباب. ماذا قال موسى؟ {يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ * فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (سورة يونس:84-85)، لا نفتن بتعذيبهم فنتراجع عن ديننا، ولا نكون نحن فتنة لهم فيستمرون في طغيانهم، إذا رأونا مستضعفين فاغتروا بقوتهم، ولذلك كان دعاؤهم {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (سورة يونس:85-86). وهكذا نجاهم الله فعلاً، وعبر بهم البحر، وأهلك عدوهم، وهكذا حصل الانتصار بعد الاستضعاف.

وكذلك أصحاب الكهف {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} (سورة الكهف:10)، الرحمة إذا أوتيها العبد فقد أوتي خيراً كثيراً، {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} موافقاً للحق والصواب، ثبتنا واحفظنا من الشر، وهكذا دعوا ربهم هؤلاء الشباب، هؤلاء الفتية أصحاب الكهف، فكانت المكرمة {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (سورة الكهف:14) اعترفوا بربوبيته، {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا} أعلنوا عزمهم على البقاء والحياة على التوحيد، {لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا} لن نشرك به، {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} بعدنا عن الحق لو أشركنا به، ثبتهم الله {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} (سورة الإسراء:74)، فربط الله على قلوبهم، وأخبرنا بذلك فقال: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}.

المناجاة من شأن أرباب الفطر السليمة، والإشارة إلى نهاية الطغاة

الفطر السليمة والعقول المستقيمة إذا اهتدت إلى ربها فهي تناجيه وتناديه، وهكذا دعاء الأبرار دائماً: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} (سورة آل عمران:193)  أدعية عظيمة، بعدما قالوا سابقاً: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} (سورة آل عمران:191-192)، الوقاية من النار، وطلب مغفرة الذنوب، وتكفير السيئات، وأن تكون الوفاة مع الأبرار. الالتحاق بركب الصالحين، أدخلنا الجنة مع الأبرار، أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.. هكذا الدعاء من المؤمنين لله عز وجل.

ونتذكر بطغيان فرعون في السابق طغيان الصليبيين في هذا الوقت، طغوا في بلاد المسلمين فأكثروا فيها الفساد، وتمخضت الأحداث، وظهرت الجرائم، ولكل نبأ مستقر.

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً  

ويأتيك بالأخبار من لم تزود   

فتكشفت جرائم الصليبين في بلدة حديثة بأهلها المسلمين، ماذا فعلوا؟ تقول الطفلة إيمان التي نجت مع أخيها عبد الرحمن من المجزرة: اقتحم الجنود بيتنا عند الصباح الباكر، وأطلقوا النار على والدي الذي كان يصلي في باحة الدار آنذاك، دخلوا غرفة نوم والدي، ولما قفزت والدتي من السرير من شدة الخوف بعد أن قتلوا والدي أطلقوا عليها النار، وتركوها تنزف عند باب الغرفة وهي تصرخ من شدة الألم حتى ماتت، قتلوا كل من كان في المنزل، لم يبق غيري وأخي عبد الرحمن وأختي الصغيرة آسية، كنا خائفين، عجزنا عن الحركة، وظللنا مختبئين داخل الفراش لم يفطنوا لوجودنا، هذا غيظ من فيض مما فعله أولئك المجرمون في بيوت المسلمين.

لما دخلوا على منزل عبد الحميد حسن وهو رجل مقعد قتلوه وثلاثة من أولاده وزوجته وزوجة ابنه وليد وحفيده عبد الله، ولم ينج من هذه العائلة غير نفر يسير انتقلوا إلى المنازل المجاورة، فقتلوا ثلاثة آخرين من الشباب، وهكذا يفعلون.

وقد أخبر الله عنهم وعن جرائمهم، هؤلاء امتداد لفرعون، امتداد للجبروت في الأرض والطغيان فيها، ثم كانت جريمتهم في أفغانستان لما صدمت آليتهم تلك السيارة فأصيب أربعة من المسلمين فيها جرحى مصابون في الحادث، فنزلوا ليجهزوا عليهم، بدلاً من إنقاذهم، ليجهزوا عليهم، فثار حشد غاضب من المسلمين فقتلوا منهم مقتلة، وأحدثوا فيهم مجزرة، وهكذا. يفعلون ليعرف العالم ما هي هذه الديمقراطية، وما هي مبادئ القوم؟ وإلى أي شيء يسعون؟ وماذا ينتظر منهم الآخرون؟.

لكن هذه أمة مرحومة، عذابها في دنياها، وأما الطغاة قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (سورة الأعراف:183)، قال الله عز وجل: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} (سورة الحـج:48)، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (سورة هود:102)،   {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} (سورة الدخان:17)، ثم أخذه الله عز وجل، {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} (سورة إبراهيم:42)، فيقال لهم يوم القيامة: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (سورة يــس:59) تميزوا عن غيركم؛ لأنفذ بكم عذابي، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} (سورة الروم:55)، وهكذا تسقط الأقنعة، ويتضح فصل آخر من هذه الموقعة بين أهل الإسلام وأهل الصليب، وهم وإن قتلوا من قتلوا فإن الله لهم بالمرصاد، وإن في المسلمين من يريهم ويكتب الله على يديه من إذاقتهم البأس {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} (سورة النساء:104).

وهذه الأمة من البلاء الذي ينزل بها ما يكون بأمر الله، فمن جهة أخرى جاء أمر الله بزلزال في بلاد أندونيسيا ذات الغالبية المسلمة بجزيرة جاوا يضرب ذلك الزلزال العنيف الذي يؤدي إلى انقطاع الكهرباء، وتضرر المناطق. لقد أصبحت الحركة في الشوارع مزدحمة جداً بعربات الإسعاف، وبالناس الذين يفرون من مواقع سكنهم وعملهم، وقضى الليل عشرات الآلاف في الشوارع خارج منازلهم المهدمة، وفي ساحات المساجد والمدارس، المكان مظلم موحش، يستخدمون الشموع، لا كهرباء، وهكذا يكافحون لإخراج الجثث من تحت الأنقاض المهدمة.

آية من آيات الله عز وجل يذكرنا بها تعالى قرب قيام الساعة، ويذكرنا بهذا وجوب نصرة المستضعفين وإخواننا المحتاجين، وأنه لا بد أن يقوم المسلمون لنجدة إخوانهم {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} (سورة الإسراء:59)،   {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (سورة البقرة:155).

اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، اللهم اجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا ربنا وتقبل دعاء، ربنا هب لنا حكماً وألحقنا بالصالحين، واجعل لنا لسان صدق في الآخرين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم، ولا تخزنا يوم يبعثون. ربنا هب لنا من الصالحين، ولا تجعلنا فتنة للذين كفروا، وأوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا، وأن نعمل صالحاً ترضاه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء. اللهم أنت القدير، وأنت العلي الكبير انصر إخواننا المستضعفين. اللهم انصرنا على القوم الظالمين، اللهم نصرك الذي وعدت به عبادك، اللهم آتهم نصرك الذي وعدت به عبادك على لسان رسلك.

اللهم إنا نسألك وأنت الواحد القهار العزيز الجبار أن تنتقم من أعدائنا يا رب العالمين، اللهم أرسل عليهم عذابك، واشدد وطأتك عليهم، اللهم احصدهم، اللهم اقتلهم، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم دمرهم، اللهم عاجلهم بانتقامك، وأرنا فيهم آية، واشف صدور قوم مؤمنين.

اللهم إنا نسألك الرحمة لمن قتل من إخواننا المسلمين، اللهم إنا نسألك أن تجعل هؤلاء الموتى والقتلى في الزلازل وما أصابهم بأيدي الآخرين في منازل الشهداء، اجعل لهم أجر الشهداء يا رب العالمين، واغفر لنا ولهم وارحمنا وارحمهم وأنت خير الراحمين، وآتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (سورة النحل:90).

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 


1 رواه الترمذي برقم (3427)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3383).