في السماء رزقكم

في السماء رزقكم

 

خلق الله -عز وجل- الخلق وتكفل بأرزاقهم كلهم، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته).1

وبين الله تعالى ذلك أتم بيان كما في قوله سبحانه: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (22) سورة الذاريات. وقد رويت قصة عجيبة في هذه الآية تدل على قوة التوكل على الله واليقين بما عنده من الأرزاق وأنه تكفل لكل مخلوق برزقه، كلٌّ على قدر ما كتب له من قلة وكثرة، فعن الأصمعي قال: أقبلت ذات يوم من المسجد الجامع بالبصرة، فبينا أنا في بعض سككها إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلد سيفه وبيده قوس، فدنا وسلم وقال لي: ممن الرجل؟ قلت: من بني الأصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم، قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم، قال: اتلُ علي شيئاً منه، فقلت له: انزل عن قعودك، فنزل وابتدأت بسورة الذاريات، فلما انتهيت إلى قوله تعالى: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) قال: يا أصمعي هذا كلام الرحمن؟! قلت: إي والذي بعث محمداً بالحق إنه لكلامه أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لي: حسبك، ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها، وقال: أعني على تفريقها، ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وجعلهما تحت الرحل، وولى مدبراً نحو البادية، وهو يقول: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) فأقبلت على نفسي باللوم، وقلت: لم تنتبه لما انتبه له الأعرابي! فلما حججت مع الرشيد دخلت مكة، فبينا أنا أطوف بالكعبة إذ هتف بي هاتف بصوت دقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي نحيلاً مصفاراً! فسلم علي وأخذ بيدي وأجلسني من وراء المقام وقال لي: اتل كلام الرحمن، فأخذت في سورة الذاريات فلما انتهيت إلى قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) صاح الأعرابي: وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، ثم قال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم يقول الله عز وجل: {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} (23) سورة الذاريات. فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله من الذي أغضب الجليل حتى حلف! ألم يصدقوه حتى ألجؤوه إلى اليمين؟! قالها ثلاثاً وخرجت فيها روحه.2

وقيل لبعضهم: من أين تأكل؟ فقال: الذي خلق الرحى يأتيها بالطحين، والذي شدق الأشداق هو خالق الأرزاق. وقيل لأبي أسيد: من أين تأكل؟ فقال: سبحان الله والله أكبر ! إن الله يرزق الكلب أفلا يرزق أبا أسيد ! وقيل لحاتم الأصم: من أين تأكل ؟ فقال : من عند الله فقيل له : الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء ؟ فقال : كأن ما له إلا السماء ! يا هذا الأرض له، والسماء له، فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض، وأنشد :

وكيف أخاف الفقر والله رازقي … ورازق هذا الخلق في العسر واليسر

تكفل بالأرزاق للخلـق كلهم … وللضب في البيداء والحوت في البحر

وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول بإسناده عن زيد بن أسلم: أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر في نفر منهم لما هاجروا وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وقد أرملوا من الزاد، فأرسلوا رجلاً منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله، فلما انتهى إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ هذه الآية: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} فقال الرجل: ما الأشعريون بأهون الدواب على الله! فرجع ولم يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأصحابه: أبشروا أتاكم الغوث، ولا يظنون إلا أنه قد كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعده، فبينما هم كذلك إذا أتاهم رجلان يحملان قصعة بينهما مملوءة خبزاً ولحماً فأكلوا منها ما شاؤوا، ثم قال بعضهم لبعض: لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضي به حاجته، فقالوا للرجلين: اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا قد قضينا منه حاجتنا، ثم إنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ما رأينا طعاماً أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به قال: (ما أرسلت إليكم طعاماً) فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ما صنع وما قاله لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذلك شيء رزقكموه الله).3

وفي قضية الأرزاق يقف الناس بين أمرين:الأول الاعتماد على المادة ونسيان الله الرازق الكريم، فيظل العبد يلهث وراء الدنيا حتى تهلكه، وكلما جمع كنزاً تمنى كنزاً أكبر منه حتى لا يشبعه إلا التراب، وهذا حال كثير من البشر اليوم، حتى أصاب ذلك الوباء جمعاً غفيراً جداً من أهل الإسلام، فجمعوا الدنيا بالمادة البحتة ونسوا الله والاعتماد عليه، ولهذا يصابون بالقلق والاكتئاب والخوف على الأموال والأرزاق، وكأنه ليس هناك مدبر رازق حكيم سبحانه وتعالى.

والثاني: التواكل وترك العمل بالأسباب، وهذا وقع فيه بعض الكسالى والخاملين الذين يظنون أن الأرزاق تأتي بلا أسباب فيظلون عالة على غيرهم بدعوى التوكل على الله! ولو فهموا التوكل على الله حق الفهم لما فعلوا هذا، فإن الله تعالى أمر مريم عليها السلام أن تهز جذع النخلة، وهي من أولياء الله الصالحين ومن أعظم المتوكلين، ولو انتظرت الرزق بلا فعل سبب لماتت مكانها، ولكن أوحي إليها بهز الجذع، وهذا دليل على أن الأرزاق بأسباب، وتختلف الأسباب باختلاف الناس، ومع أن مريم عليه السلام في حالة ولادة وضعف ووحدة وخوف حتى أنها تمنت الموت، ولكن مع كل هذا أمرت بالعمل بالسبب لجلب الرزق وماذا تفعل مريم الضعيفة بجذع النخلة الضخم؟ ولكنها سنة الله في استجلاب الأرزاق بأسبابها..

فحال المؤمن بين هذين الأمرين: الأول العمل بالسبب والآخر التوكل على الله والعلم بأن ما عند الله باق ولا ينفد، ولكن الناس يحرمون الأرزاق بالذنوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)4.

نسأل الله أن يصلح أحوالنا كلها، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 رواه عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه، وهو حديث صحيح، كما في صحيح الجامع للألباني  2085.

2 ذكر القصة غير واحد من السلف منهم ابن قدامة في كتابه التوابين، ص274-275.

3 ذكر ذلك القرطبي في تفسيره (9/9).

4 رواه الحاكم وصححه ، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3006).