سلامة القلوب

سلامة القلوب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فإن من أمراض القلوب الخطيرة التي لا يسلم منها أحد – إلا من رحم الله – الرياء؛ وهو ناتج عن خلل في القلب أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإرائهم الخصال المحمودة، والرياء محبط للأعمال، يشارك بل يقارن به صاحبه إبليس عليه لعنة الله قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيمًا (النساء:38-39) وهو مستوجب بطلان عمل صاحبه كما قد أبطل الله صدقة المنان والمرائي فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (البقرة:264).

والرياء صفة من صفات المنافقين، وخلة من خلالهم وبئس الخلال قال ​​​​​​​ : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (النساء:142).

وقد ذم النبي الرياء، وشنع على فاعله في أحاديث كثيرة منها ما جاء عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله : من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به رواه البخاري ومسلم واللفظ له.

وعن محمود بن لبيد  قال: قال رسول الله : إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء، إن الله – تبارك وتعالى – يقول يوم يجـازي العباد بأعمالهـم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون بأعمالكم في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (1555).

وعن أبي هريرة  قال: سمعت رسول الله يقول: إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فياتي به فعرفه نِعَمَهُ فعرفها، قال: فما علمت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسُحِبَ على وجهه حتى أُلقِيَ في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن ، فآتي به، فعرفه نِعَمَهُ فعرفها، قال: فما علمت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسُحِبَ على وجـهه حتى أُلقِيَ في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نِعَمَهُ فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت في سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكن فعلت ليقـال هـو جـواد، فقد قيل، ثم أمر به فسُحِبَ على وجـهه، ثم أُلقِيَ في النار رواه مسلم (1905).

وعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله قال الله – تعالى-: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه رواه مسلم (2985).

وأما آثار السلف الصالح فمنها ما قاله علي : للمرائي ثلاث علامات، يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه، وينقص إذا ذُمَّ1.

وعن مجاهد رحمه الله قال في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ (فاطر:10) قال: هم المراؤون”2

وعن مطرف بن عبد الله الشخيّر  قال: “لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إلي من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً”3

وعن الأوزاعي قال حدثني عبدة بن أبي لبابة قال: إن أقرب التواضع الرضا بالمجلس دون شرف المجلس، والابتداء بالسلام، وأن يكره الرياء في عمله كله والمدح”4

وعن محمد بن عبيد قال سمعت سفيان يقول: “يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم، لا تزيدوا الخشوع على ما القلب فقد وضح الطريق، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين”5

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: كانوا يراءون بما يعملون؛ وصاروا اليوم يراءون بما لا يعملون6.

ويقال: إن المرائي ينادى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا مرائي، يا غادر، يا خاسر، يا فاجر، اذهب فخذ أجرك ممن عملت له، فلا أجر لك عندنا7.

أيهـا المسلمون: تلكم هي بعض الآيات والأحاديث والآثار في ذم الرياء، وإليكم ذكر بعض الأمور التي يكون بها الرياء بحسب ما يرائي به؛ من أمور الدنيا والآخرة:

أولاً: الرياء في الدين بالبدن، وذلك بإظهـار النحول والصغار؛ ليوهم بذلك شدة الاجتهاد، أو عظم الحـزن على أمر الدين، وغلبة حقوق الآخرة، أما رياء أهل الدنيا فيكون بإظهـار السمـن، وصفاء اللون، واعتدال القامة، وحسن الوجه، ونظافـة البدن، وقوة الأعضاء.

ثانياً: الرياء بالهيئة والزي وذلك بتشعيث شعر الرأس، وغلظ الثياب، وتقصير الأكمـام، وترك تنظيف الثوب، وتركه مخرقاً، كل ذلك لإظهـار أنه من أهل الزهد والتقلل من الدنيا، أما مراءاة أهـل الدنيا فبالثياب النفيسة، والمراكب الرفيعـة، وأنواع التوسع، والتجمل في الملبس والمسكن.

الثالث: الرياء بالقول؛ وذلك بإظهار وحفظ الأخبـار والآثـار؛ ورواية الأشعار، وإظهـار غزارة العلم، ومن ذلك تحريك الشفتين بالذكر محضر الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمامهم، أو التفاصح بالعبارات، وحفظ الغريب من النحو واللغة؛ للإغراب على أهل الفضل.

الرابع: الرياء بالعمل؛ وذلك كمراءاة المصلي بطول القيام والركوع والسجـود ونحو ذلك، أما أهل الدنيا فمراءاتهـم بالتبختر والاختيال وغيرهما.

الخامس: المراءاة بالأصحاب والزائرين؛ كأن يطلب المرائي من عالم أن يزوره ليقال: إن فلاناً قد زاره فلاناً، ومن ذلك المكاثرة بالشيوخ لا لطلب العلم وإنما لذكر كثرة شيوخه فحسب.

فـهــذه الخمسـة هي مجـامع ما يرائي به المراءون، وكلهـم يطلبون بذلك الجـاه والمنزلة في قلوب العباد8.

أيها الفضلاء: أما عن كيفية علاج هذا المرض فإنه: لا يستطيع أحد ما أن يقمـع الرياء إلا بمجاهدة شـديدة، ومكابدة لقوة الشهوات، ويكون ذلك بأمرين:

الأول: قلع عروقه، واستئصال أصوله، وهـي لذة المحمدة، والفرار من ألم الذم، والطمع فيما في أيدي الناس، وهذه الثلاثة راجعـة إلى حب المنزلة والحيـاة.

الثاني: أن يشمر الإنسان عن ساعد الجد لدفع ما يعرض من خاطر الرياء، وخواطره ثلاثة أيضاً وهي: العلم بإطلاع الخلق، ورجاء اطلاعهم، ثم هيجان الرغبة من النفس في حمدهم، وحصول المنزلة عندهـم، ويعقب ذلك هيجان الرغبـة في قبول النفس له – أي الحمد والمنزلة- والركون إليه، وعقد الضمير على تحقيقه، والخاطر الأول يسمى معرفة، والثاني رغبة وشهوة.

الثالث: العزم وكمال القـوة في دفع الخاطر الأول قبل أن يعقبه الثاني، فإذا خطر له معرفـة اطلاع الخلق أو رجاء إطلاعهم دفع ذلك بأن قال: ما لي وللخلق علموا أو لم يعلموا، والله عالم بحالي، فأي فائدة في علم غيره؟ فإن هاجت الرغبة إلى لذة الحمد؛ فعليه أن يذكر تعرض المرائي للمقت عند الله يوم القيامة، وخيبته في أحرج أوقاته إلى أعماله، وعندئذ تثور عنده كراهيـة الرياء تقابل تلك الشهوة؛ إذ يتفكر في تعرضه لمقت الله، وعقابه الأليم، والشهـوة تدعوه إلى القبول، والكراهـة تدعوه إلى الإباء، والنفس تطاوع لا محالة أقواهما، ويتضح من ذلك أنه لا بد في رد الرياء الذي خطر أثناء العبادة من المعرفة والكراهة والإبـاء.

وأما من الناحية العمليـة: فإن دفع الرياء يستلزم من المرء أن يعود نفسه إخفاء العبادات، وإغلاق الأبواب دونها؛ كما تغلق الأبواب دون الفواحش حتى يقنع قلبه بعلم الله، ولا تنازعـه نفسه بطلب علم غير الله به، وهذا وإن كان يشق في البداية إلا أنه يهون بالصبر عليه، وبتواصل ألطاف الله تعالى، وما يمده به عباده من التأييد والتسديد9.

واختصر ابن القيم العلاج في كلمتين موجزتين فقـال- رحمه الله-: فدواء الرياء بـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ودواء الكبر بـ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 10(الفاتحة: 5).

أيها المؤمنون: ومن أمراض القلوب مرض الحسد الذي هو تمني زوال النعمة عن الغير، فهو خلق ذميم، وداء عقيم، وصفة من صفات المغضوب عليهم والضالين؛ اليهود والنصارى؛ كما قال عنهم رب العالمين: وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم (البقرة: 109). وقال جلّ ذكره: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا (النساء: 51-54).

ولخطر الحسد، وعظيم شره؛ أمرنا سبحانه بالاستعاذة من شر الحاسد فقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ۝ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (الفلق: 1- 5).

وعن عبد الله بن عمرو  عن رسول الله أنه قال: إذا افتتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف : نقول كما أمرنا الله – أي نحمده ونشكره- قال رسول الله :” أو غير ذلك، تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون أو نحـو ذلك، ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض رواه مسلم.

وقال معاوية : كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيـه إلا زوالها، ولذلك قيل:

كل العداوات قد ترجى إماتتها إلا عداوة من عاداك عن حسد 11

 وقال عبد الله بن المعتز:

 

اصـبر على كيـد الحسود فإن صبرك قـاتلــه
فالنــار تأكل بعضهــا إن لم تجـد ما تأكلـه12

وقال بعض السلف: الحسد أول ذنب عُصِيَ الله به في السماء يعني حسد إبليس لآدم ، وأول ذنب عُصِيَ الله به في الأرض يعني حسد ابن آدم لأخيـه حتى قتله13.

وقال بعضهم: الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمــة وذلاً، ولا ينال من الملائكـة إلا لعنـة وبغضاً، ولا ينال من الخلق إلا جـزعاً وغماً، ولا ينال عند النزع إلا شـدة وهولاً، ولا ينال عند الموقف إلا فضيحـة ونكال14.

وقال الشاعر:

يا حاسداً لي على نعمتي أتدري على من أسأت الأدب؟
أسأت على الله في حكمه لأنك لم ترض لي ما وهب
فأخزاك ربي بأن زادني وسد عليك وجوه الطلب15

أيهـا المسلمون: ولكن ما أنزل الله داءً إلا وأنزل له دواء، ومرض الحسد له علاج يكمن في أمور عـدة ذكرها الإمام الماوردي – رحمه الله- منها: اتباع الدين في اجتنابه، والرجوع إلى الله تعالى في آدابه؛ فيقهر نفسه على مذموم خلقها، وينقلها عن لئيم طبعها، وإن كان نقل الطباع عسراً لكن بالرياضـة والتدريج يسهل منهـا ما استصعـب، ويجيب منها ما أتعب.

ومنها: العقل الذي يستقبح به من نتائج الحسد ما لا يرضيه، ويستنكف من هجنة مساويه، فيذلل نفسه أنفة، ويطهرها حميـة، فتذعن لرشدها، وتحبب إلى صلاحها، وهذا إنمـا يصح لدى النفس الأبية، والهمـة العليـة، وإن كان ذو الهمـة يجل عن دنـاءة الحسـد.

ومنها: أن يستدفع ضرره، ويتوقى أثره، ويعلم أن مكانته في نفسه أبلغ، ومن الحسد أبعد، فيستعمل الحـزم في وقع ما كدّه وأكمده؛ ليكون أطيب نفساً، وأهنأ عيشاً.

ومنها: أن يرضى بالقضاء، ويستسلم للمقدور، ولا يرى أن يغالب قضاء الله فيرجع مغلوباً، ولا أن يعارضه في أمره فيرد محروماً مسلوباً.

فإن أظفرته السعادة بأحد هذه الأسباب، واقتادته المراشد إلى استعمال الصواب؛ سلم من سقامه، وخلص من غرامه، واستبدل بالنقص فضلاً، واعتاض من الذم حمداً، ولمن استنزل نفسه عن مذمة، وصرفها عن لائمه هـو أظهـر حزماً، وأقوى عزماً، ممن كفته النفس جهادها، وأعطته قيادهـا16.

الخطبة الثانية:

الحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

أيهـا الناس: ومن أمراض القلوب التي يجب على من أصيب بها علاجها، وعلى الصحيح الحذر منها، والابتعاد عنها: مرض النفاق وهو إظهـار الإسلام، وكتمان الكفر قال تعالى:  إِِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ۝ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ۝ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ۝ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ۝ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ۝ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (المنافقين: 1-6) وكذبهم الله كذلك في دعواهم نصرة الدين والجهاد في سبيل الله أو حتى مع الكفار أمثالهم فضلاً عن القتال مع المؤمنين فقال: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ۝ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ  (الحشر: 11-12) لأنهم كافرون كاذبون، منافقون مراوغون، محاربون لله ورسوله والمؤمنين، فكيف يقاتلون في سبيل الله، أم كيف يمكن أن تتحقق بهم نصرة لدين الله قال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (التوبة:107) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (التوبة:54ولذلك توعدهم الله بالعذاب الأليم لكذبهم ومراوغتهم، وتربصهم بالمؤمنين فقال: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا۝ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا۝ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا۝ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً۝ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً۝ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً۝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا۝ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ  الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (النساء: 138-145) والآيات في صفتهم والتحذير منهم كثيرة جداً.

أيها المسلمون: ولخطر النفاق عدَّه العلماء أعظم الكفر إن كان عقدياً، ذلك لأن الله قد جعل المنافقين أسفل دركة من الكافرين في النار فقال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا  النساء: 145)، أما إذا كان النفاق عملياً بمعنى أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن فينطبق عليه حكم الرياء الذي يعد من الكبائر، بل يعد أكبر من الكبائر وهو من الكفر الأصغر17.

ومهما تستر المنافقون بإظهارهم للحق، وإخفائهم للباطل؛ فإن الله يفضحهم، ويكشف عوارهم، وقد فضحهم في كتابه المجيد، وعلى لسان رسوله الكريم ﷺ، وكما قيل:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم

ومن الأحاديث عنه في ذكر علاماتهم:

1- بغضهم أصحاب النبي  كما في الحـديث عن أنس  عن النبي قال: آيـة الإيمان حب الأنصار، وآيـة النفاق بغض الأنصـار رواه البخاري.

وعن البراء  يحـدث عن النبي أنه قال في الأنصار: لا يحبهـم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله رواه البخاري ومسلم. فلا يحب أصحاب النبي  إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق.

2- ومما جاء في وصفهم أيضاً حـديث أبي هريرة  أن رسول الله قال: آيـة المنافق ثلاث: إذا حَـدَّث كذب، وإذا وَعَد أخلف، وإذا ائتُمِنَ خـان رواه البخاري ومسلم، وفي حـديث عبد الله بن عمر  قال: قال رسول الله : أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصـلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق؛ حتى يدعها: إذا حَـدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وَعَد أخلف، وإذا خاصم فجر رواه البخاري ومسلم.

3- ثقـل صـلاة العشاء والفجر عليهـم؛ كما في الصحيحين عن أبي هريرة  قال: قال النبي : ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشـاء، ولو يعلمون ما فيهمـا لأتوهما ولو حبواً رواه البخاري ومسلم.

والأحاديث في ذم المنافقين وذكر صفاتهم أكثر من أن تحصى، ولعل فيما ذكر كفاية.

اللهم أصلح فساد قلوبنا، وأهد ضالنا، وتول أمرنا، وأصلح ذات بيننا، إنك على كل شيء قدير.

اللهم أعـز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم من أرادنا، أو أمتنا، أو دعاتنا وعلمائنا، أو مساجدنا بسوء؛ فرد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين.

اللهـم احفظ المجاهدين في سبيلك في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أيدهم بنصرك، اللهم احفظهم من بين أيديهـم، ومن خلفهـم، ومن فوقهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، ونعـوذ بعظمتك أن يغتالوا من تحتهـم.

اللهـم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعـداء ولا الحاسدين، ربنا آتنا في الدنيا حسنـة وفي الآخرة حسنـة وقنا عذاب النار، آمين اللهم آمين.


1– إحياء علوم الدين (3/296).

2– شعب الإيمان: 5/338

3– الزهد لابن المبارك: 1/151

4– شعب الإيمان للبيهقي 5/356

5– شعب الإيمان: 5/365

6– المصدر السابق (3/296- 297).

7– أحياء علوم الدين (3/296).

8– إحياء علوم الدين (3/297) وما بعدها بتصرف واختصار.

9– إحياء علوم الدين (3/310-314).

10– طب القلوب (197).ط: دار الدعوة – الكويت.

11– الإحياء (3/201) ط: الريان.

12– أدب الدنيا والدين (176).ط: بولاق.

13– المصدر السابق نفسه.

14– الإحياء (3/201).

15– الترغيب والترهيب للمنذري (3/557).

16 – آدب الدنيا والدين صـ ( 262- 264) و(176) وما بعدها . ط: بولاق.

17للاستزادة انظر الزواجر لابن حجر (49-64).