الصالحات في الحج

الصالحات في الحج

 

الحمد لله ما حمده الذاكرون الأبرار، وهتف باسمه الناسكون في الأسحار، وتهجد بليله المستغفرون الأخيار، والصلاة والسلام على أزكى البشرية، المحلى بالأنوار البهية، الهادي للملة السوية، أما بعد:

فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أرسى في خطبة الوداع عام حجة الوداع معالم تناقلتها الأجيال، وسار بها الركبان، أشار فيها وألمح، ونبه على مهمات وأوضح، ولم يغفل شريكة الرجل حياته، فجعلها نصب عينيه، وضمنها خطابه وكلامه، فأخبر ممن شأنه يرفع من قدرها، ويعلي من شأنها فقال – صلى الله عليه وسلم – موصياً بحقها: ((استوصوا بالنساء خيراً…))1، ولذا كان لها في الحج حضور واضح بين مناسكه وفي مواقيته، إما مع سيد المرسلين محمد – صلى الله عليه وسلم -، وإما مع من اغترفوا من علم نبوته، فكانوا للناس بصائر، ولحجاج بيت الله منائر، وهي في كل أحوالها سائلة أو مستفهمة، أو مقصودة بالخطاب، أو مختصة بحكم، لذا يحسن بنا أن نلفت النظر إلى ما يخص المرأة الصالحة في الحج، وإن كان الحديث جرى مع صالحات الجيل الأول إلا أن الحكم شامل وينزل على من جاء بعدهن من نساء العالمين.

الصالحة .. أفضل جهادها الحج المبرور:

لحديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: (( لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور))2.

الصالحة تبادر للحج عند استطاعتها:

لقوله – تعالى -: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}3، وقوله سبحانه: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}4، والحج يجب على الفور لا على التراخي كما نص على كثير من أهل العلم في حال توفر الزاد والراحلة التي فسرت بها معنى {اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}.

الصالحة لا تسافر إلا مع ذي محرم:

لحديث أبي بن معبد عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((لا يخلون رجل بامرأة، ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم))، فقام رجل فقال: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وخرجت امرأتي حاجَّة؟ قال: ((اذهب فحج مع امرأتك))5.

الصالحة لا تخلو بالرجل الأجنبي في الحج وغيره:

للحديث السابق، ولحديث ابن عمر – رضي الله عنه – قال: خطبنا عمر بالجابية فقال: "يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فينا فقال: ((أوصيكم بأصحابي … ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان))"6.

الصالحة تشترط في الحج والعمرة إذا خافت الضرر على نفسها:

لحديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ضباعة بنت الزبير فقال لها: ((لعلك أردت الحج؟)) قالت: والله لا أجدني إلا وجعة، فقال لها: ((حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني))7.

الصالحة لا تخالط الرجال في الحج قدر المستطاع:

في الحديث عن أم سلمة – رضي الله عنها – قالت: "شكوت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أني أشتكي، قال: ((طوفي من وراء الناس وأنت راكبة))، فطفت ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصلي إلى جنب البيت يقرأ بـ{وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ8}"9، قال النووي: "إنما أمرها – صلى الله عليه وسلم – بالطواف من وراء الناس لشيئين:

أحدهما: أن سنة النساء التباعد عن الرجال في الطواف.

والثاني: أن قربها يخاف منه تأذي الناس بدابتها، وكذا إذا طاف الرجل راكباً، وإنما طافت في حال صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ ليكون أستر لها، وكانت هذه الصلاة صلاة الصبح"10، فعلى المرأة أن تتقي الله، ولا تخالط الرجال ما استطاعت.

الصالحة تسأل عن دينها في الحج:

ففي الحديث عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنه – قال: جاءت امرأة من خثعم فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: ((نعم))، وذلك في حجة الوداع.11

وفي الحديث عن ابن عباس – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لقي ركباً بالروحاء فقال: ((من القوم؟)) قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: ((رسول الله))، فرفعت إليه امرأة صبياً، فقالت: ألهذا حج؟ قال: ((نعم، ولك أجر)).12

الصالحة لا تنتقب ولا تلبس القفازين:

لحديث ابن عمر – رضي الله عنه – وفيه: ((ولا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين))13 قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "البرقع أقوى من النقاب فلهذا ينهى عنه باتفاقهم، ولهذا كانت المحرمة لا تلبس ما يصنع لستر الوجه كالبرقع ونحوه فإنه كالنقاب"14، وقال ابن القيم – رحمه الله تعالى -: "فإن البرقع واللثام وإن لم يسميا نقاباً فلا فرق بينهما وبينه، بل إذا نهيت عن النقاب فالبرقع واللثام أولى، ولذلك منعتها أم المؤمنين من اللثام"15، وقال ابن حزم: "وأما اللثام فإنه نقاب بلا شك فلا يحل لها"16.

ولكن إذا كان هناك رجال أجانب فإن المحرمة تغطي وجهها بغير النقاب والبرقع، وما في معناهما مما هو مفصل للوجه.

الصالحة تستر وجهها في الحج وغيره عن الرجال الأجانب:

لعموم النصوص الواردة في وجوب الحجاب عن الرجال الأجانب، وللنصوص الخاصة الواردة في تغطية المحرمة وجهها عن الرجال الأجانب، من ذلك:

ما رواه الإمام مالك في "الموطأ" عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق17.

الصالحة تنفق وتبذل وتعطي في الحج:

لحديث عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصدر الناس بنسكين، وأصدر بنسك؟ فقيل لها: ((انتظري، فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلِّي، ثم ائتينا بمكان كذا، ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك))، وفي لفظ : ((إنما أجرك في عمرتك على قدر نفقتك))18، قال النووي: "هذا ظاهر في أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة، والمراد النصب الذي لا يذمه الشرع، وكذا النفقة"19.

الصالحة تأخذ بالرخصة في الحج:

من تأمل الحج وما فيه من مشقة وجهد خاصة للنساء – ولذا كان في حقهن جهاد -؛ رأى أن الشريعة خففت عن المرأة في مواضع عدة من أحكام الحج خشية الضرر والزحام، ومن النصوص الواردة في ذلك:

حديث عبد الله مولى أسماء عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلي، فصلت ساعة، ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا، فصلت ساعة، ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم، قالت: فارتحلوا، فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هنتاه، ما أرانا إلا قد غلسنا، قالت: يا بني إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أذن للظعن20.

الصالحة لا تستلم الحجر الأسود خشية مزاحمة الرجال:

عن عطاء بن أبي رباح قال: طافت امرأة مع عائشة – رضي الله عنها – سماها، فلما جاءت الركن قالت المرأة: يا أم المؤمنين ألا تستلمين؟ قالت عائشة: "وما للنساء، وما استلام الركن، امض عنك"21 قال ابن عبد البر: "الاستلام للرجال دون النساء عن عائشة وعطاء وغيرهما، وعليه جماعة الفقهاء22، فإذا وجدت المرأة الحجر خالياً واليماني استلمت إن شاءت، وكانت عائشة – رضي الله عنها – تقول للنساء: "إذا وجدتن فرجة فاستلمن، وإلا فكبرن وامضين"23.

وقد غفلت كثير من الصالحات عن هذا الهدي فزاحمن الرجال طلباً للأجر، وفي الأثر عن عائشة – رضي الله عنها – أن مولاة لها قالت: يا أم المؤمنين طفت بالبيت سبعاً، واستلمت الركن مرتين أو ثلاثاً، فقالت لها عائشة – رضي الله عنها -: "لا أجرك الله، لا أجرك الله، تدافعين الرجال! ألا كبرت ومررت؟!"24.

الصالحة تتعلم أحكام الحج وتعلم غيرها:

ففي الحديث عن أم الفضل بنت الحارث أن ناساً اختلفوا عندها يوم عرفة في صوم النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه25، فتأمل كيف قطعت هذه الصحابية الجليلة الخلاف في هذه المسألة بأسلوب لطيف حكيم، فتعلمت وعلمت غيرها.

الصالحة تحج بأولادها ما لم تخش الضرر:

لحديث ابن عباس – رضي الله عنه – وفيه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لقي ركباً بالروحاء فقال: ((من القوم ؟)) قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: ((رسول الله))، فرفعت إليه امرأة صبياً، فقالت: ألهذا حج؟ قال: ((نعم، و لك أجر))26.

تنبيهات:

1- المرأة كالرجل في سائر أحكام الحج، إلا ما ورد الدليل على استثنائه.

2- تحرص المرأة على الابتعاد من أماكن ازدحام الرجال في كل موطن تحاشياً للمخالطة والممازجة.

3- يعجب البعض من حال بعض النسوة في هذه العبادة العظيمة، حيث يظهرن الزينة والتجمل أمام الرجال خاصة يوم العيد، ويلبسن الضيق من الثياب والبنطال الذي يصف العورة بدون حياء ولا خجل ولا خوف، فلتحذر المسلمة من هذا العمل القبيح، ولتنصح غيرها.

4- بعض النسوة لا تتورع عن الغيبة والنميمة، والقيل والقال في الحج، خاصة مع فراغهن في المخيمات، وعدم وجود ما يشغل، وهذا خطأ كبير ينبغي أن تتفطن له المسلمة، وأن تنشغل بقراءة القرآن والأدعية والأذكار، وقراءة كتب العلم النافعة، والاستماع للمحاضرات الطيبة.

نسأل الله أن يرزقنا حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، وعملاً صالحاً مقبولاً.


1 رواه البخاري برقم (4787)، ومسلم برقم (2671).

2 رواه البخاري برقم (1423).

3 سورة آل عمران (97).

4 سورة آل عمران (133).

5 رواه البخاري برقم (2784).

6 رواه الترمذي برقم (2091)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (258).

7 رواه البخاري برقم (4699)، ومسلم برقم (2101).

8 سورة الطور (1-2).

9 البخاري برقم (444)، ومسلم برقم (2238).

10 شرح النووي على صحيح مسلم (9/20).

11 البخاري برقم (1417)، ومسلم برقم (2375).

12 رواه مسلم برقم (2377).

13 رواه مسلم برقم (1707).

14 مجموع الفتاوى (26/113).

15 إعلام الموقعين (1/223).

16 المحلى (7/91).

17 رواه مالك في الموطأ برقم (634)، وقال الألباني معلقاً: وهذا إسناد صحيح ذكره في الإرواء برقم (1023).

18 رواه البخاري برقم (1662).

19 فتح الباري (3/611).

20 رواه البخاري برقم (1567).

21 الحاوي الكبير (4/136).

22 التمهيد لابن عبد البر (22/263).

23 الاستذكار (4/199).

24 سنن البيهقي الكبرى (5/81).

25 رواه البخاري برقم (1551)، ومسلم برقم (1894).

26 سبق تخريجه برقم (12).