النية في الحج

 

 

النية في الحج

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فبلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده، اللَّهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه، وسلك سبيله إلى يوم الدين، وبعد:

من المعلوم أن النية شرط في الأعمال عموماً، وسنبين في هذا الدرس النية في الحج فنقول وبالله التوفيق:

أولاً: وجوب النية في الحج والعمرة:

أجمع أهل العلم على أن النية شرط لصحة الحج والعمرة وذلك لعموم حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  : ((يَقُولُ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ))1، وكان النبي   يسأل الصحابة عن إهلالهم فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَالَ قَدِمَ عَلِيٌّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَلَى النَّبِيِّ   مِنْ الْيَمَنِ فَقَالَ: ((بِمَا أَهْلَلْتَ)) قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ  ، فَقَالَ: ((لَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ))2، وعَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ: ((دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ   عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: ((لَهَا لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ؟)) قَالَتْ: وَاللَّهِ لَا أَجِدُنِي إِلَّا وَجِعَةً، فَقَالَ لَهَا: ((حُجِّي وَاشْتَرِطِي، وَقُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي)) وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ))3.

ثانياً: وقت النية في الحج:

النية شرط لصحة جميع الأعمال، والحج واحد من هذه الأعمال، ولكن متى تكون نية الحج؟

اختلف الفقهاء في هذه المسألة على مذهبين:

المذهب الأول: يستحب أن تكون النية عقب صلاة فرضاً أو نفلاً، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد، وبه قال الظاهرية4، واستدلوا بما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما – قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يُهِلُّ مُلَبِّدًا، يَقُولُ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ)) لَا يَزِيدُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – كَانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ   يَرْكَعُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ النَّاقَةُ قَائِمَةً عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ أَهَلَّ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – يَقُولُ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – يُهِلُّ بِإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ   مِنْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، وَيَقُولُ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ لَبَّيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ))5.

المذهب الثاني: ذهب مالك والشافعي6 أن الإحرام يستحب عند ابتداء السير، وانبعاث الراحلة، ودليلهم إخبار عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  : ((كَانَ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ أَهَلَّ فَقَالَ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ…))7.

والصحيح – والله تعالى أعلم – أن النبي   أهلَّ بعد الصلاة، وأهلَّ حين استوت به ناقته، وأهلَّ حين علا على شرف البيداء، فعن عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: يا أبا العباس عجباً لاختلاف أصحاب رسول الله   في إهلال رسول الله  حين أوجب، فقال: ((إني لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت من رسول الله  حجة واحدة، فمن هنالك اختلفوا: خرج رسول الله  حاجاً، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا عنه، ثم ركب فلما استقبلت به ناقته أهلَّ، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالاً فسمعوه حين استقلت به ناقته يهلُّ فقالوا: إنما أهلَّ رسول الله   حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله  فلما علا على شرف البيداء أهلَّ، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهلَّ رسول الله   حين علا على شرف البيداء، وأيم الله لقد أوجب في مصلاه، وأهلَّ حين استقلت به ناقته، وأهلَّ حين علا على شرف البيداء، فمن أخذ بقول عبد الله بن عباس أهلَّ في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه))8، والمقصود أن النية لا بد أن تقارن الإهلال، أو تتقدم عليه، فلو أهلَّ بدون نية لم يصح إهلاله.

ثالثاً: حكم التلبية:

اختلف العلماء في هذه المسألة على مذهبين:

المذهب الأول: مذهب المالكية9والشافعية10والحنابلة11أن التلبية سنة، مستدلين بأن الحج عبادة لا يجب النطق في آخرها، فلم يجب في أولها كالصوم.

المذهب الثاني: مذهب الحنفية12والبعض من المالكية13وأبو عبد الله الزبيري من الشافعية14أن التلبية شرط لصحة الحج، ولا ينعقد إلا بها، كما لا تنعقد الصلاة إلا بالنية والتكبير.

والأولى أن يذكر الحاج التلبية خروجاً من الخلاف.

رابعاً: حكم النطق بالنية في الحج:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: “تنازع العلماء: هل يستحب أن يتكلم بالنية؟ كما تنازعوا: هل يستحب التلفظ بالنية في الصلاة؟ والصواب المقطوع به أنه لا يستحب شيء من ذلك، فإن النبي   لم يشرع للمسلمين شيئاً من ذلك، ولا كان يتكلم قبل التكبير بشيء من ألفاظ النية لا هو ولا أصحابه، بل لما أمر ضباعة بنت الزبير بالاشتراط قالت: فكيف أقول؟ قال: ((قولي: لبيك اللهم لبيك، ومحلي من الأرض حيث تحبسني)) رواه أهل السنن وصححه الترمذي ولفظ النسائي: إني أريد الحج فكيف أقول؟ قال: ((قولي: لبيك اللهم لبيك، ومحلي من الأرض حيث تحبسني، فإن لك على ربك ما استثنيت)) وحديث الاشتراط في الصحيحين، لكن المقصود بهذا اللفظ أنه أمرها بالاشتراط في التلبية، ولم يأمرها أن تقول قبل التلبية شيئاً لا اشتراطاً ولا غيره، وكان يقول في تلبيته: ((لبيك عمرة وحجاً))”15.

وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثمين: إذا قال في النسك: لبيك حجاً، لبيك عمرة، ليس هذا من باب ابتداء النية، لأنه قد نوى من قبل، ولهذا لا يشرع أن نقول: اللهم إني أريد العمرة، اللهم إني أريد الحج، بل انو بقلبك، ولب بلسانك، وأما التكلم بالنية في غير الحج والعمرة فهذا أمر معلوم أنه ليس بمشروع، فلا يسن للإنسان إذا أراد أن يتوضأ أن يقول: اللهم إني أريد أن أتوضأ، اللهم إني نويت أن أتوضأ، أو بالصلاة: اللهم إني أريد أن أصلى، اللهم إني نويت أن أصلى، كل هذا غير مشروع، وخير الهدي هدي محمد  “16انتهى.

خامساً: كيفية النية في الحج:

من المعلوم أن النية شرط لكل عبادة، والأصل في النية لكل عبادة أن تعين نوع العبادة، وتميزها إن كانت تلتبس بغيرها، إلا نية الإحرام فإنها تكون بنية معينة، أو معلقة، أو مطلقة، وذلك أن الدخول في النسك لا يعني مباشرة أعماله فور التلبس به، فأعطى المحرم فسحة في هذه العبادة ليختار الأفضل والأكمل أو الأيسر إذا ضاق الوقت، وذلك كله قبل مباشرة النسك، وتفصيل المسألة يتضح بالأمور الآتية:

1- تعيين النسك:

ذهب مالك وأحمد والشافعي17في أحد قوله أن الدخول في نسك معين غير معلق، ولا مطلق أفضل وأكمل: لأن النبي   وأصحابه أحرموا بنسك معين يدل على ذلك لحديثَ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – قَالَتْ: ((خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ   فَقَالَ: ((مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ))، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ   بِحَجٍّ، وَأَهَلَّ بِهِ نَاسٌ مَعَهُ، وَأَهَلَّ نَاسٌ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، وَأَهَلَّ نَاسٌ بِعُمْرَةٍ، وَكُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ))18.

وذهبت الظاهرية19 إلى وجوب التعيين مستدلين بحديث جابر – رضي الله عنه – في صحيح مسلم: ((أن النبي   أمر من لم يسق الهدي أن يطوفوا بالبيت وبالصفا والمروة، ثم يبقوا حلالاً إلى يوم الثامن من ذي الحجة، ثم يحرموا بالحج))20.

2- الإحرام بنسك معلق:

وهو أن يعلق إحرامه على إحرام فلان، فيجوز، كما علق علي بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري – رضي الله عنهما – إحرامهما على إحرام النبي   فعَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: ((بَعَثَنِي النَّبِيُّ   إِلَى قَوْمٍ بِالْيَمَنِ، فَجِئْتُ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: بِمَا أَهْلَلْتَ؟ قُلْتُ: أَهْلَلْتُ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ  ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ؟ قُلْتُ: لَا،فَأَمَرَنِي فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْلَلْتُ، فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي أَوْ غَسَلَتْ رَأْسِي، فَقَدِمَ عُمَرُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – فَقَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ قَالَ اللَّهُ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ، وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ   فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ))21.

وقصة علي وأبي موسى – رضي الله عنهما – صريحة في صحة الإحرام المعلق، وأن المعلق يلزمه إحرام من علق إحرامه عليه، إلا إذا بان للمعلق عليه الإحرام حال أخرى فإن الإحرام المعلق يصرف إلى الأفضل، ويدلل لذلك قصة علي وأبي موسى الأشعري، فإن علياً – رضي الله عنه – لما كان معه الهدي أمره النبي  أن يبقى على إحرامه، أما أبو موسى الأشعري فصرفه النبي   إلى التمتع لأنه أفضل لمن لم يكن معه هدي، فقد تمناه النبي   لنفسه لو لم يكن معه الهدي، والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين.


1 أخرجه الإمام البخاري (1).

2 المصدر السابق (1558).

3 المصدر السابق (5089).

4 كنز الدقائق (2/9)، والمغني (3/275)، والمحلى (7/97).

5 أخرجه الإمام مسلم (1184).

6 الكافي في فقه أهل المدينة (1/364)، والمجموع (7/226).

7 نفس المصدر (1184).

8 مسند أحمد بن حنبل (2358)، وحسنه الأرناؤوط.

9 الكافي في فقه أهل المدينة (1/364).

10 المجموع للنووي (7/226).

11 المغني لابن قدامة المقدسي (3/282)

12 بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (3/1174).

13 مواهب الجليل (3/45).

14 المجموع (3/45).

15 مجموع الفتاوى (26/105).

16 مجموع فتاوى ابن عثيمين (22/20).

17 المدونة الكبرى (1/295)، المغني (3/284)، المجموع (7/229).

18 مسلم (1211).

19 المحلى (2/111).

20 مسلم (1218).

21 البخاري (1559).