مواقف الصحابة في الحج

مواقف الصحابة في الحج

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الأنام صلى الله عليه وعلى آله وصحابته الكرام صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أما بعد:

فهذه بعض المواقف التي وقعت للصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – في الحج منها:

* زفرات وعبرات:

بكاء عمر – رضي الله تعالى عنهما -: عن ابن عمر – رضي الله عنه -: قال استقبل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الحجر، ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلا، ثم التفت فإذا هو بعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يبكي، فقال: ((ياعمر هاهنا تسكب العبرات))1.

* همُّ الدعاء لا همُّ الإجابة، وحسن الخاتمة:

دعاء عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في الحج، وطلب الشهادة في المدينة والإجابة: وقال ابن كثير – رحمه الله تعالى -: "لما فرغ عمر بن الخطاب من الحج سنة ثلاث وعشرين، ونزل بالأبطح دعا الله – عز وجل -، وشكا إليه أنه قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وانتشرت رعيته، وخاف من التقصير، وسأل الله أن يقبضه إليه، وأن يمنَّ عليه بالشهادة في بلد النبي – صلى الله عليه وسلم -، كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك، فاستجاب له الله هذا الدعاء2"، وعن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كان يقول في دعائه: "اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، ووفاة ببلد رسولك3".

* خوفاً من فوات الأجر:

عائشة – رضي الله عنها – تبكي في الحج: أخرج البخاري – رحمه الله – في صحيحه من حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: "خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في أشهر الحج، وليالي الحج، وحرم الحج، فنزلنا بسرف، قالت: فخرج إلى أصحابه فقال: ((من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه الهدي فلا))، قالت: فالآخذ بها، والتارك لها من أصحابه، قالت: فأما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ورجال من أصحابه فكانوا أهل قوة، وكان معهم الهدي، فلم يقدروا على العمرة، قالت: فدخل علي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا أبكي، فقال: ((ما يبكيك يا هنتاه))، قلت: سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة، قال: ((وما شأنك)) قلت: لا أصلي، قال: ((فلا يضيرك إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب الله عليك ما كتب عليهن، فكوني في حجتك فعسى الله أن يرزقكيها))، قالت: فخرجنا في حجته حتى قدمنا منى فطهرت، ثم خرجنا من منى فأفضت بالبيت، قالت: ثم خرجت معه في النفر الآخر حتى نزل المحصب ونزلنا معه، فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: ((اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة، ثم افرغا ثم ائتياها هنا، فإني أنظركما حتى تأتياني))، قالت: فخرجنا حتى إذا فرغت وفرغت من الطواف ثم جئته بسحر، فقال: ((هل فرغتم)) فقلت: نعم، فآذن بالرحيل في أصحابه، فارتحل الناس، فمرَّ متوجهاً إلى المدينة"4؛ وأخرجه بلفظ: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – دخل عليها، وحاضت بسرف قبل أن تدخل مكة وهي تبكي فقال: ((ما لك أنفست)) قالت: نعم قال: ((إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت))، فلما كنا بمنى أتيت بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ قالوا: ضحى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن أزواجه بالبقر5"

* شدة المتابعة:

ابن عمر – رضي الله عنهما – يخالف أباه متابعة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: وعن سالم بن عبد الله – رضي الله عنه -: "أنه سمع رجلاً من أهل الشام وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج؟ فقال عبد الله بن عمر: هي حلال، فقال الشامي: إن أباك قد نهى عنه، فقال عبد الله بن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها، وصنعها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: لقد صنعها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -"6.

عمر بن الخطاب رضي الله عنه – يقبل الحجر إمتثالاً: عن عبد الله بن سرجس قال: " رأيت الأصيلع يعني عمر – رضي الله عنه – يقبل الحجر ويقول: إني لأقبلك واعلم انك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك لم أقبلك7" .

علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – يهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم – ولم يلقه: عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أهل وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي غير النبي – صلى الله عليه وسلم – وطلحة وكان علي قدم من اليمن ومعه الهدي؛ فقال: أهللت بما أهل به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – أذن لأصحابه أن يجعلوها عمرة يطوفوا بالبيت ثم يقصروا ويحلوا إلا من معه الهدي فقالوا ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر فبلغ النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت)). وأن عائشة حاضت فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت، قال: فلما طهرت وطافت، قالت: يا رسول الله أتنطلقون بعمرة وحجة وأنطلق بالحج؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج في ذي الحجة. وأن سراقة بن مالك بن جعشم لقي النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو بالعقبة وهو يرميها فقال: ألكم هذه خاصة يا رسول الله؟ قال: ((لا بل للأبد))8"

 

* كراهة الخلاف:

عبدالله بن مسعود رضي الله عنه – وكراهته للخلاف مع حرصه على المتابعة: عن عبد الرحمن بن يزيد – رضي الله عنه – قال: صلى عثمان بمنى أربعا، فقال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – صليت مع النبي – صلى الله عليه وسلم – ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، زاد عن حفص ومع عثمان صدرا من إمارته ثم أتمها"، زاد من ههنا عن أبي معاوية: " ثم تفرقت بكم الطرق فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين" قال الأعمش: " فحدثني معاوية بن قرة عن أشياخه: أن عبد الله صلى أربعا قال: فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعا قال: "الخلاف شر9" .

وأخرجه البخاري بالفظ: "صلى بنا عثمان بن عفان – رضي الله عنه – بمنى أربع ركعات فقيل لعبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – فاسترجع ثم قال: صليت مع النبي – صلى الله عليه وسلم – بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر – رضي الله عنه بمنى ركعتين وصليت مع عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات متقبلتان10"

* الحنين والشوق إلى الحج:

خالد بن الوليد – رضي الله عنه – يحج سراً دون إذن أمير المؤمنين: لما أيقن خالد من انهزام العدو؛ اشتاق إلى زيارة مكة، وإلى تأدية فريضة الحج متخفياً من غير أن يستأذن أبا بكر – رضي الله عنه -، فأمر جيشه بالعودة إلى الحيرة، وتظاهر بأنه سائر في مؤخرة الجيش، فبدأ رحلته إلى مكة ومعه عدة من أصحابه لخمس بقين من ذي القعدة، ولم يكن معه دليل، فاخترق الصحراء مسرعاً رغم صعوبة الطريق، ولما أدى فريضة الحج عاد إلى الحيرة في أوائل فصل الربيع فكانت غيبته على الجند يسيرة، فما وصلت إلى الحيرة مؤخرة الجيش حتى وافاهم خالد مع صاحب الساقة فقدما معاً، وخالد وأصحابه محلقون، وقد كان تكتمه شديداً حتى إنهم ظنوا أنه كان في هذه المدة بالفراض، ولم يعلم أبو بكر بحج خالد مع أنه كان في الحج أيضاً، غير أنه بعد قليل بلغه الخبر، فاستاء جداً، وعتب عليه، وكانت عقوبته أن صرفه إلى الشام ليمد جموع المسلمين باليرموك، فأرسل إليه كتاباً هذا نصه: سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك فإنهم قد شجوا وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت فإنه لم يشج الجموع من الناس – بعون الله – شجاك، ولم ينزع الشجى من الناس نزعك، فليهنئك أبا سليمان النية والخطوة، فأتمم يتمم الله عليك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل فإن الله له المنَّ وهو ولي الجزاء11".

* سمعاً وطاعة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -:

أبو بكر – رضي الله عنه – أميراً على الحج: قال ابن إسحاق – رحمه الله -كما في دلائل النبوة: "ثم أقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منصرفه من تبوك بقية رمضان وشوالاً وذا القعدة، ثم بعث أبا بكر أميراً على الحج في سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم، فخرج أبو بكر ومن معه من المسلمين، ونزلت براءة في نقض ما بين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والمشركين من العهد الذي كانوا عليه، قال ابن إسحاق: فخرج علي بن أبي طالب على ناقة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – العضباء، حتى أدرك أبا بكر بالطريق، فلما رآه أبو بكر الصديق قال : أمير أو مأمور؟ فقال: لا، بل مأمور، ثم مضيا، فأقام أبو بكر للناس حجهم، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب عند الجمرة، فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: "أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو له إلى مدته، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم من بلادهم، ثم لا عهد ولا ذمة، إلا أحداً كان له عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عهد فهو له مدته"، وهذا الذي ذكره محمد بن إسحاق في المغازي موجود في الأحاديث الموصولة12".

* الحياء كله خير:

حين يسأل المملوك مملوكاً: وكان سالم بن عبد الله بن عمر يطوف بالبيت ومعه في المطاف الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، وما إن وقعت عين الخليفة على حفيد الفاروق وهو من علماء عصره، ومن ذي الورع فيهم؛ حتى سارع إليه ممسكاً بيديه قائلاً: "يا سالم ألك حاجة؟"، فبادره سالم بقوله: "والله يا أمير المؤمنين إني لأستحيي أن أسأل غير الله وأنا في بيته"، ويتركه الخليفة حتى يفرغ من طوافه، حتى إذا كان خارج المطاف بعيداً عن البيت الحرام أعاد القول عليه: "أليست لك حاجة أقضيها لك يا سالم؟" فعاجله بقوله: "إني لأستحيي أن أسأل غير الله وأنا ملكه"13.

* لا تقع في مواطن الريبة والفتنة:

النبي – عليه الصلاة والسلام – يصرف وجه الفضل بن العباس – رضي الله عنه -: عن عبدالله بن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: "كان الفضل بن عباس رديف رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: ((نعم))، وذلك في حجة الوداع14".

* البر بآبائهم وعظم حق الوالدين:

عن سعيد بن أبى بردة – رضي الله عنهما – قال: " سمعت أبى يحدث: أنه شهد ابن عمر رجلا يمانيا يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره يقول: إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر، ثم قال: يا ابن عمر أتراني جزيتها، قال: لا، ولا بزفرة واحدة، ثم طاف ابن عمر فأتى المقام فصلى ركعتين ثم قال: يا ابن أبى موسى إن كل ركعتين تكفران ما أمامهم15"

تواضعهم وإظهار  فقرهم إلى الله:

معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – يبكي: قال هشام بن عمار: "حدثنا عبد المؤمن بن مهلهل، حدثني رجل قال: حج معاوية، فاطلع في بئر عادية بالابواء، فضربته اللقوة فدخل داره بمكة، وأرخى حجابه، واعتم بعمامة سوداء على شقه الذي لم يصب، ثم أذن للناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس ! إن ابن آدم بعرض بلاء، إما مبتلى ليؤجر، أو معاقب بذنب، وإما مستعتب ليعتب، وما أعتذر من واحدة من ثلاث، فإن ابتليت، فقد ابتلي الصالحون قبلي، وإن عوقبت، فقد عوقب الخاطئون قبلي، وما آمن أن أكون منهم، وإن مرض عضو مني، فما أحصي صحيحي، ولو كان الأمر إلى نفسي، ما كان لي على ربي أكثر مما أعطاني، فأنا ابن بضع وستين، فرحم الله من دعا لي بالعافية، فوالله لئن عتب علي بعض خاصتكم، لقد كنت حدبا على عامتكم، فعج الناس يدعون له، وبكى16".

 

هذا ما تيسر جمعه من مواقف الصحابة الكرام – رضوان الله عليهم – والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.


1 رواه ابن ماجه في سننه برقم (2945)؛ وقال الألباني: ضعيف جداً في ضعيف ابن ماجة برقم (639)؛ وصححه ابن خزيمة في صحيح ابن خزيمة  برقم (2712)؛ وقال الحاكم: هذا المستدرك حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه برقم (1670).

2 البداية والنهاية (7/154).

3 الطبقات الكبرى (3/331)؛ وأخرجه عبد الرزاق في المصنف عن عروة عن أبيه برقم (9550 – 19637).

4 رواه البخاري في صحيحه برقم (1485).

5 رواه البخاري في صحيحه برقم (5228).

6 رواه الترمذي  في سننه برقم (824), وقال الشيخ الألباني: صحيح الإسناد في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم(823).

7 – رواه أحمد في المسند برقم (229) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم؛ وقال الألباني: صحيح في صحيح الترغيب برقم(44).

8 – رواه البخاري في صحيحه برقم(1693).

9 – رواه أبو داود في سننه (1960)؛ وقال الشيخ الألباني: صحيح دون حديث معاوية بن قرة في صحيح أبي داود برقم (1726).

10 – رواه البخاري في صحيحه برقم(1034)؛ و مسلم في صحيحه برقم(695). 

11 أبو بكر الصديق لمحمد رضا (1/134).

12 دلائل النبوة للبيهقي (5/377) برقم (2040).

13 انظر http://www.osrty.com/main/?a=1806&c=225.

14 رواه البخاري في صحيحه برقم (4138)؛ ورواه مسلم في صحيحه واللفظ له برقم (1334).

15 – الأدب المفرد للبخاري برقم(11)؛ وقال الشيخ الألباني: صحيح الإسناد في صحيح الأدب المفرد برقم(9).

16 – سير أعلام النبلاء (3/156).