الفراسة والإلهام

الفراسة والإلهام

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا ً مرشداً، وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما بعـد:

أيها الإخوة: اعلموا أن الفراسة الإيمانية هي نور يقذفه الله في قلب عبده المؤمن, يفرق به بين الحق والباطل، والصادق والكاذب, وكذلك الإلهام.

وهاتان الصفتان من أعظم صفات أهل الإيمان؛ لما فيها من الآثار الحميدة على العبد في الدنيا والآخرة، ولذلك حثت الشريعة الإسلامية عليهما ومدحت من اتصف بهما. فلا بد على العبد أن يعرف مقدار هذه النعمة، وأن يسأل الله الشكر على الاتصاف بهما، وأن يسيّرها فيما يرضاه ربه عز وجل.

معنى الفراسة والإلهام:

الفراسة لغةً: بالكسر اسم من التفرس، وتفرس: تثبت ونظر)1. والإلهام لغةً: ألهمه الله -تعالى- خيراً : لقنه إياه. واستلهمه إياه: سأله أن يلهمه)2.

والفراسة اصطلاحاً: خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضاده، يثبت على القلب كوثوب الأسد على الفريسة. وهي تتعلق بنوع كسب وتحصيل.3

والإلهام اصطلاحاً: موهبة مجردة من الله تعالى لأوليائه لا تنال بكسب البتة، وهو الهداية المستلزمة للتوفيق والاهتداء إلى الصراط المستقيم.

منزلة الفراسة والإلهام في الدين:

قال ابن القيم رحمه الله: "(ولكن الفرق الصحيح: أن الفراسة قد تتعلق بنوع كسب وتحصيل. وأما الإلهام فموهبة مجردة لا تنال بكسب البتة". وقال أيضاً: "فصل: ومن منازل (إياك نعبد وإياك نستعين) منزلة الفراسة: قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ}[الحجر: 75]، قال ابن عباس رضي الله عنه: للناظرين.. وقال مجاهد: المتفرسين. وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)، ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ}4.

وحقيقتها: أنها خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضاده. يثبت على القلب كوثوب الأسد على الفريسة.

وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان فمن كان أقوى إيماناً فهو أحد فراسة.

وقال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا}[الأنعام: 122].

وللفراسة سببان: أحدهما: جودة ذهن المتفرس، وحدة قلبه، وحسن فطنته. والثاني: ظهور العلاقات والأدلة على المتفرس فيه). ا.هـ5

وقال ابن القيم رحمه الله: "هداية التوفيق والإلهام: وهي الهداية المستلزمة للاهتداء، فلا يتخلف عنها، وهي المذكورة في قوله تعالى: {فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء}[إبراهيم: 4]. وقوله تعالى: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ}[النحل: 37]، وقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}[القصص: 56]، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له).6 .7

النصوص الواردة في الفراسة والإلهام:

قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ}[الحجر: 75]، وقد سبق أن مجاهد فسر المتوسمين بالمتفرسين.

وقال تعالى في حق المنافقين: {وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}[محمد: 30]. والمقصود معرفة المنافقين من خلال التفرس في كلامهم وما ينطوي عليه من شر، عن طريق الإشارة لا المباشرة، والتلميح لا التصريح.

وحكى القرآن الكريم قول العزيز في يوسف عليه السلام حيث قال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}[يوسف: 21]، حيث تفرس في يوسف خيراً في مستقبل أمره..

وقول ابنة شعيب لأبيها في موسى عليه السلام: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[القصص: 26]، لأنها رأت قوته عليه السلام في رفع الصخرة عن البئر، وأمانته في عفة بصره عن النساء. فهو لما سوى ذلك آمن وأقوى..

وقال تعالى حاكياً قول امرأة فرعون حيث قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}[القصص: 9].

وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم)8.

من الأمثلة التطبيقية من حياة الصحابة في الفراسة:

قال ابن القيم رحمه الله: (وكان الصديق رضي الله عنه أعظم الأمة فراسة، وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووقائع فراسته مشهورة، ويكفي في فراسته: موافقته ربه عز وجل في المواضع المعروفة.

وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه كان صادق الفراسة، وفراسة الصحابة رضي الله عنهم أصدق الفراسة.

وكذلك نقد أهل الحديث، فإنه يمر إسناد ظاهر كالشمس على متن مكذوب، فيخرجه ناقدهم كما يخرج الصيرفي الزغل من تحت الظاهر من الفضة).9.

مثال على فراسة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

قصة طاعون أهل الشام من حديث ابن عباس وفيه: وقد اختلفوا على عمر حين خرج إلى الشام، فأخبر أن الوباء قد وقع فيها، فاستشار المهاجرين والأنصار، فاختلفوا عليه إلا مهاجرة الفتح، فإنهم اتفقوا على رجوعه، فقال أبو عبيدة: (أفراراً من قدر الله) قال عمر: (لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت إن كانت لك إبل هبطت وادياً له عدوتان: إحداهما خصيبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله، قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف..  فقال: إن عندي في هذا علماً: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه, وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه). قال: فحمد اللهَ عمرُ، ثم انصرف)10.

نسأل الله أن يشرح صدورنا لكل خير, وأن يباعدنا عن كل شر. اللهم آمين.


1 انظر القاموس المحيط ص506 حرف الفاء (فرس).

2 القاموس المحيط ص 1046 لهم.

3 هكذا عرفها ابن القيم في مدارج السالكين وسيأتي قريباً..

4 رواه الترمذي (3127) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال الألباني في ضعيف الترمذي. ضعيف رقم 607 وانظر الضعيفة 1821. وقد يغني عنه قوله صلى الله علي وسلم: (إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم) وصححه الألباني برقم (1693) الصحيحة.

5 مدارج السالكين 1/53 .و(2/503-505)بتصرف.

6 هذا الحديث جزء من خطبة الحاجة التي كان يقولها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مقدمة خطبه. رواه مسلم وغيره.

7 بدائع الفوائد (2/37).

8 رواه الطبراني في المعجم الأوسط، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (1693).

9 مدارج السالكين (2/506) بتصرف، وموسوعة نظرة النعيم 8/3567 – 3615 بتصرف.

10 رواه البخاري في -صحيحه- الطب باب ما يذكر في الطاعون 10/179 رقم 5729 اللفظ له، ومسلم 4/1704 – 1741.