الإخلاص

الإخلاص

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:

فإن إخلاص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء والعجب أمر يصعب تحقيقه على كثير من الناس؛ لأن أمره دقيق وخفي وهو يدب إلى القلوب كدبيب النمل؛ ولهذا فقد خاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته من الرياء.

 إن إخلاص العمل لله يكون بابتغاء وجه الله وحده لا شريك له، والبعد عن الرياء ونحوه، قال الله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[البينة: 5]، وقال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف: 110]، قال ابن القيم: لا يكون العبد متحققاً بـ{إِيَّاكَ نَعْبُدُ}[الفاتحة: 5]. إلا بأصلين: الإخلاص، المتابعة1.

والله عز وجل قد أخبر أنه ما خلقنا إلا ليبتلينا فيرى من منا سيخلص العمل، فيفوز بمغفرة العزيز الغفار، فقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك: 2]. قال الفضيل بن عياض رحمه الله أخلصه وأصوبه، قالوا: ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة؛ ثم قرأ قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}2 . وقال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}[النساء: 125]. وإسلام الوجه هو: إخلاص القصد والعمل لله، والإحسان فيه متابعة رسوله في سننه..

وبالإخلاص يبلغ الإنسان الدرجات العلى وإن لم يعمل العمل؛ والناس كلهم يعملون، ولكن تفضل الأعمال عن بعضها البعض بإخلاص أصحابها؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أقواماً خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعباً ولا وادياً ألا وهم معنا، حبسهم العذر"3، وقال ابن القيم: تفاضل الأعمال عند الله بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، والمحبة وتوابعها4.

ولقد كان السف الصالح من أشد الناس إخلاصاً في العمل، واتباعاً لهدي سيد البشر، سيد الفتيان أيوب بن كيسان المشهور بالسختياني: يقوم الليل كله، فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة. وهذا علي بن الحسين كما يقول عمرو بن ثابت: لما مات علي بن الحسين فغسلوه؛ جعلوا ينظرون إلى آثار سواد بظهره، فقالوا: ما هذا؟ فقيل: كان يحمل جراب الدقيق ليلاً على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة. وقال محمد بن إسحاق: كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به في الليل. وهذا داوود بن أبي هند يصوم أربعين سنة لا يعلم به أهله ولا أحد، وكان خزازاً يحمل معه غداءه من عندهم، فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشياً فيفطر معهم، فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، ويظن أهله أنه قد أكل في السوق. وعمرو بن قيس الملائي أقام عشرين سنة صائماً، ما يعلم به أهله، يأخذ غداءه ويغدوا إلى الحانوت، فيتصدق بغدائه ويصوم، وأهله لا يدرون. وكان إذا حضرته الرقة، يحول وجهه إلى الحائط، ويقول لجلسائه: ما أشد الزكام. وقالت سُرّية الربيع بن خثيم: كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه. وهذا الإمام المبجل إمام أهل السنة أحمد بن حنبل يقول عنه تلميذه أبو بكر المروزي: كنت مع أبي عبد الله نحواً من أربعة أشهر بالعسكر، وكان لا يدع قيام الليل، وقراءات النهار، فما علمت بختمة ختمها، وكان يُسر بذلك. وقال محمد بن واسع: إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم به. ويقول: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بل ما تحت خده من دموعه، لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالاً، يقوم أحدهم في الصف، فتسيل دموعه على خده، ولا يشعر به الذي جنبه. فهذا غيض من فيض أخبارهم، ونقطة من بحار عجائبهم، وأعمالهم، وأحوالهم، نقلتها لعلها تذكر الغافلين، وتشحذ همم الصالحين، والله حسبي وعليه اعتمادي، وإليه منقلبي ومآلي، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 مدارج السالكين (1/95).

2 مدارج السالكين (2/93).

3 رواه البخاري (2684).

4 الوابل الصيب صـ (22).