كيف يقضي المسلم نهار رمضان

كيف يقضي المسلم نهار رمضان

الخطبة الأولى:

الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71-70]، أما بعد:

أيها المسلمون:

لقد أظلنا شهر رمضان الكريم بإشراقاته وأنواره حاملاً معه البركات والخيرات، مما يجعلنا نتوقف مع هذه المناسبة وقفة عرض ومحاسبة لأحوالنا في هذا الشهر، وواقعنا فيه بين الصورة والحقيقة، وما مدى التزامنا فيه بالهدي النبوي، وماذا يتوجب علينا أن نقوم به لنكون فيه من المقبولين – إن شاء الله -.

إن هذا الشهر الذي تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب جهنم، وتصفد فيه الشياطين؛ هو فرصة كبيرة لعودة المسلمين المسرفين على أنفسهم إلى الله – جل وعلا -. توبة وهداية والتزام، وحسب من صامه إيماناً واحتساباً أن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه؛ كما أخبر بذلك الصادق المصدوق  1. لقد كان هذا الشهر المبارك غرة في جبين تاريخ أمتنا كل عام، وقد كان شهر الفتوح والانتصارات، إذ إن كثيراً من الغزوات والمعارك الإسلامية كانت فيه من مثل (غزوة بدر، وفتح مكة، وفتح الأندلس، وحطين وغيرها…) مما يدل على أنه شهر للحركة والنهوض والعمل لا شهر القعود والتكاسل.

ومما يؤسف له أن يتحول كثير من العباد في هذا الشهر إلى النقيض تماماً عما كان عليه سلفنا الصالح، فيكونون في أحوال يرثى لها، فتور وكسل، ونوم وخمول، مع أنه شهر الجد والاجتهاد، والصبر والمصابرة لنيل رضا الله – تعالى – بكل أنواع العبادة حيث المسلم الحريص والنشيط يستغل جميع ساعاته قبل فوات الأوان.

أيها المسلمون:

فيم يقضي المسلم نهار هذا الشهر الكريم, وماذا أعد من خطة لاستغلال ساعاته العابرة التي تمر مر السحاب؟

من المؤلم والمؤسف جداً أنه يوجد من الناس من يستغل هذا الشهر للسفر والسياحة لا لطلب الجو المريح، والمناخ الجميل الذي يعينه على الصيام والقيام، وإنما للهروب من الجو الرمضاني ليعاقر المنكرات، ويبارز الله بالمعاصي.

وصنف آخر من الناس يأخذون الإجازات في هذا الشهر ليكون ليلهم سهر، ونهارهم للنوم الطويل، ولربما استمر فيه حتى ينادي المؤذن لصلاة المغرب! فأي صيام هذا الذي لا تؤدى فيه الفرائض والسنن؟!

ومن الصائمين من لا يلتزم بأخلاقيات الصيام في تعامله، فتجده وهو الصائم في عمله المؤسسي أو التعليمي عبوساً قمطريراً، وإن تحدث لا يعف لسانه عن الوقوع في الغيبة والنميمة ونحوها.

ومما يؤسف له أن أحوال كثير من الصائمين فيها محاذير شرعية قد تصل إلى إحباط العمل، وربما ينطبق على الكثير منها ما جاء في الحديث: رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ2، وهذا يقتضي من كل مسلم مخلص مراجعة حساباته في بداية هذا الشهر الكريم قبل فوات الأوان، وأن ينظر لهذا الموسم بأنه فرصة كبرى، ومجال مهم لتلافي الكثير من الأخطاء والزلات، لعل الله أن يتداركه برحمته، وأن يختم له بالحسنى وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34].

هذا الشهر فيه شرف عظيم لا يحظى به ولا يوفق له إلا الربانيون المقتدون بسنة خاتم الأنبياء والمرسلين، وذلك باستشعار أن الصيام عبادة لا عادة، وأن ثمرته المرجوة هي التقوى، إذ أنها الحكمة منه ومن فرض الصيام فيه كما أشار إليها – جل وعلا – في آيات الصيام.

فعليك أيها الصائم أن تستغل نهار رمضان بزيادة الارتباط بكتاب الله حفظاً وقراءة وتدبراً، والاطلاع على ما تيسر من تفاسيره، ليكون نهارك نهار عبادة لا نوم وكسل وخمول كما هو حال كثير من الصائمين في هذا الزمان.

احرص أن يكون صيامك كما كان عليه حال سلفنا الصالح تنافساً في الطاعات، وتزوداً من النوافل والقربات، ومن أهمها أداء الفرائض مع جماعة المسلمين، والحرص على أداء صلوات التراويح، والقيام والضحى، وبذل الصدقات للمحتاجين، والسير في قضاء حوائجهم ما أمكن، وتجنب كل ما يخل أو يفسد الصيام من الأقوال والأفعال. تفاعل مع واقع إخوانك المسلمين المستضعفين في أرجاء العالم الإسلامي بالبذل والمساعدة، والمشاركة ما أمكن في الإغاثة، ودعم المشاريع الخيرية التي يعود ريعها لإخواننا المنكوبين.

إن أداء الصوم مع الصائمين من المسلمين، والإحساس بالجوع والظمأ؛ يذكرنا بحال إخواننا المنكوبين، وما يعانونه من جوع ومسغبة، مما يدفعنا إلى بذل المزيد من التبرعات والهبات لصالح المشاريع الخيرية، التي يعود ريعها لصالحهم، وكذا الدعاء الصادق لهم بالنصر والتمكين.

عباد الله:

هلَّ شهر رمضان … وانطلق المؤمنون أفواجاً يتعبدون الله ​​​​​​​ في كل عبادة، فظهرت خيرية الناس، وانقشعت ظواهر الفتور، وسلم الناس أنفسهم لله في كل عبادة وطاعة.

رمضان يربي النفوس على الإخلاص، فالحبيب  يقول عن الصائم فيما يرويه عن ربه – جل وعلا -: يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ3، فلا يستطيع الصائم البتَّة أن يأكل أو يشرب حال خلوته، وهذا أدعى وأقرب إلى الإخلاص والنقاء.

اللهم ألهمنا رشدنا، وتول أمرنا، وأحسن خاتمتنا، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، واجعلنا من الراشدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله الحليمِ الشّكور، العزيز الغفور، قائم على كلّ نفسٍ بما كسبت، يحصِي على العباد أعمالَهم ثمّ يجزيهم بما كسبت أيديهم، ولا يظلم ربّك أحداً، أحمد ربّي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له العليم بذات الصّدور، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّداً عبده ورسوله الدّاعي إلى كلّ عملٍ مبرور، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أيها المسلمون:

إن شهر رمضان شهر الجهاد والصبر، والمصابرة والكفاح والعمل، فمن عمل فيه بجد ونشاط وعزيمة، واستشعر أنه شهر العمل لا شهر الكسل؛ فاز وربح فيه، فهو للعاملين الذين لم يجعلوا نهاره للنوم، وليله للسهر الضائع فيما لا ينفع، سبب في القوة والنصرة والتمكين، وخير مثالٍ عن ذلك تلك الغزوة التي كانت فرقاناً بين الحق والباطل، تلك الغزوة التي جعلت للمسلمين كياناًً مهاباً، وجانباً مصوناً، وبعد هذه الغزوة أصبح للمسلمين كيانٌ ماثلٌ لأعين الكفار يحسبون له ألف حساب، ولا يجرؤون على تجاهله، بعد أن كانوا مستضعفين، لا يكترث بهم، بل ويستهان بهم، أصبحوا بعدها قوة ضاربة يهابها الكفار، فكانت تلك الحادثة عرساً حقيقياً في رمضان، وفرحاً صادقاً للمسلمين في شهر الفرقان.

وفي رمضان في السنة الثامنة للهجرة تحقق أكبر فتح للمسلمين وهو فتح مكة، وكان لهذا الفتح أثر كبير في تاريخ البشرية، فقد قضى على الأوثان والشرك في مكة تمامًا، وتسابقت الشعوب والقبائل إلى الدخول في الإسلام قال تعالى عن نتيجة الفتح: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ۝ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا۝ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، ودخلت الجزيرة العربية بأكملها في دين الله، وبدأ الرسول  في بعث الرسل إلى البلاد المجاورة، ووضع النبي الأسس الخالدة التي قامت عليها الفتوحات الإسلامية .. وفتحت عمورية … وفتحت قبرص في عهد المماليك … وكانت في هذا الشهر.

ما أعظم فرحة وإقبال الناس بقدوم الشهر، فما إن يعلن عن شهر رمضان إلا وتهبَّ نسائم الإيمان في نفوس العباد … وتترقرق في أعينهم أنواع القربات والطاعات … وتسيل أنواع رسائل الجوال بالتهنئه والتوجيه … وتخصَّ المواقع في الشبكة المعلوماتية ملفاتٍ خاصةٍ عن رمضان … وتوزع المسابقات الرمضانية بأنواعها التي تساعد على الفائدة وحفظ الأوقات … ويسلَّ الكتاب أقلامهم لذلك… ويتجهز العلماء والوعاظ والخطباء لنشر نفحاته بين الناس … وتجهز الزوايا الرمضانية بالتسجيلات والمكتبات … وتنُسِخ مئات الآلاف من الأشرطة والمطويات …وتهتم المجلات الإسلامية بذلك.

ما أجمل عودة التائبين إلى ربهم … فقد عاد خلق كثير إلى الله في مثل هذا الشهر …  فتاب بعض أهل الفن والطرب، وأصبحوا نبراساً في الهدى والخير .. وتاب أهل الفحش والمعاصي وأصبحوا يتأوهون ويتوجعون من آلام الماضي الجريح …

فاجتهدوا إخواني في رمضان، وأكثروا من الطاعات في ليله ونهاره، أكثروا من قراءة القرآن المبارك فأنه أنزل في هذا الشهر، وإن لكثرة القراءة فيه مزية خاصة، فقد كان جبريل يعارض النبي  القرآن في رمضان كل سنة مرة، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه مرتين تأكيداً وتثبيتاً، وكان السلف الصالح  يُكْثِرون من تلاوة القرآن في رمضان في الصلاة وغيرها، فهذا الإمام الزهري – رحمه الله – كان إذا دخل رمضان يقول: إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام، وكان مالك – رحمه الله – إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث ومجالس العلم، وأقبل على قراءة القرآن من المصحف، وكان قتادة – رحمه الله – يختم القرآن في كل سبع ليالٍ دائماً، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأخير منه في كل ليلة، وكان إبراهيم النخعي – رحمه الله – يختم القرآن في رمضان في كل ثلاث ليالٍ، وفي العشر الأواخر في كل ليلتين، وكان الأسود – رحمه الله – يقرأ القرآن كله في ليلتين في جميع الشهر.

فاتقوا الله عباد الله، وأقبلوا على ربكم بكثرة الطاعات لنيل قربه، والفوز برضوانه، وصلوا وسلموا على رسول الله وآله وصحبه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]. اللهم ثبِّتْنَا على الإيمان، والعمل الصالح، وأحْيِنا حياة طيبة، وألحقنا بالصالحين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 رواه البخاري (37)، ومسلم (1268). 

2 رواه ابن ماجه (1680), وصححه الألباني..انظر:حديث رقم (3488) في صحيح الجامع.

3 رواه البخاري (1761).