يا حسرتا على ما فرطت

يا حسرتا على ما فرطت

 

الحمد لله القائل: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ}[الزمر: 56]، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:

أيها الأحباب الكرام: إن الحياة قصيرة محدودة وأيامها بسيطة معدودة، فمن استثمر تلك اللحظات والساعات في الخير فطوبى له، ومن أضاعها وفرَّط فيها فقد خسر زمناً لا يعود إليه أبداً.

وينبغي للمؤمن أن يتخذ من مرور الليالي والأيام عبرة لنفسه، فإن الليل والنهار يُبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويطويان الأعمار، ويشيبان الصغار، ويفنيان الكبار.

إن مضي الزمن، واختلاف الليل والنهار لا يجوز أن يمر بالمؤمن وهو في ذهول عن الاعتبار به، والتفكير فيه، بل الذي يجدر بالمؤمن أن يعرف قيمة الوقت والعمر، وأن يعمره بطاعة الله – تعالى- وفعل الخير ما استطاع إليه سبيلاً.. وليكن حاله:

ولا أؤخر شغل اليومَ عن كسلٍ *** إلى غدٍ إنَّ يوم العاجزين غد

ولنستشعر قول المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يحث عبد الله بن عمر على اغتنام أيام العمر وعدم التفريط بأي لحظة فيها، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أخذ رسول الله بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))، وكان ابن عمر يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"1.

بل لقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان سيحاسب على أيام حياته، هل يا ترى استغلها في طاعة الله ومرضاته أم أنه قد ضيعها وفرط فيها، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وماذا عمل فيما علم))2.

ولذلك أيها الأحبة من جهل قيمة الوقت، ولم يعرف أهميته ضيَّعه وفرَّط فيه، ولهذا هذا فإنه سيندم أشد الندم ويتحسر أشد الحسرات في ساعة لا تنفع فيها الحسرة والندامة.

 والموقف الأول الذي سيندم فيه: عند ساعة الاحتضار حين يستدبر الإنسان الدنيا، ويستقبل الآخرة، ويتمنى لو منح مهلة من الزمن، وأُخِّر إلى أجلٍ قريبٍ ليصلح ما أفسده ويتدارك ما فاته قال تعالى:{حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون: 99-100].

قال ابن كثير رحمه الله: ذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون عند الاحتضار، ويوم النشور، ووقت العرض على الجبار، وحين يعرضون على النار وهم في غمرات عذاب الجحيم3.

والموقف الثاني: في الآخرة حيث توفَّى كلُّ نفسٍ ما عملت، وتجزى بما كسبت ويدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، هناك يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى إلى حياة التكليف ليبدءوا من جديد عملاً صالحاً، هيهات هيهات لما يطلبون، فقد انتهى زمن العمل وجاء زمن الجزاء..

قال تعالى عن ذلك: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}[السجدة: 12]، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنعام: 27]، وقال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ}[غافر: 11].

قال قتادة: والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة ولا بأن يجمع الدنيا، ويقضي الشهوات ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله عز وجل فرحم الله امرءاً عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب إلى النار4. وقال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}[مريم: 39]، قال ابن كثير رحمه الله: {وأنذرهم يوم الحسرة} أي: أنذر الخلائق يوم الحسرة {إذ قضي الأمر} أي: فُصِلَ بين أهل الجنة وأهل النار، وصار كلٌ إلى ما صار إليه مخلداً فيه {وهم} أي اليوم {في غفلة} عما أنذروا يوم الحسرة والندامة {لا يؤمنون} أي لا يصدقون به.

ثم أورد حديثاً أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبُّون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت. قال فيقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبُّون وينظرون، ويقولون: نعم هذا الموت. قال: فيؤمر به فيذبح.. قال: ويقال: يا أهل الجنة خلودٌ ولا موت، ويا أهل النار خلودٌ ولا موت)) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}[مريم: 39]، وأشار بيده ثم قال: ((أهل الدنيا في غفلة الدنيا))، هكذا رواه الإمام أحمد وقد خرجه البخاري ومسلم ولفظهما قريب من ذلك5.

أيها الأحبة: أما آن لنا أن نتنبه ونستيقظ من غفلتنا، أما آن لنا أن نندم على أيام وساعات ودقائق لم نستغلها في طاعة الله، أما آن لنا أن نعزم على استغلال ما بقي لنا من أعمارنا قبل أن نندم في ساعة لا ينفع فيها الندم.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما ندمت على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد عملي". إن حالنا اليوم حال من اشتكى أمره إلى الحسن، فقال: سبقنا القوم على خيلٍ دهم، ونحن على حمر معقرة، فقال: إن كنت على طريقهم فما أسرع اللحاق بهم6.

وقال بلال ابن سعد رحمه الله: يقال لأحدنا هل تريد أن تموت؟ فيقول: لا. فيقال له: لِمَ؟ فيقول: حتى أتوب وأعمل صالحاً، فيقال له: اعمل، فيقول: سوف أعمل، فلا يُحب أن يموت ولا يُحب أن يعمل، فيؤخر عمل الله تعالى ولا يؤخر عمل الدنيا.

أيها الأحبة: دعوة إلى العودة والتوبة قبل أن يتحسر المرء في وقت لا تنفع فيه الحسرات ولا الآهات:

إذا كنتُ أعلم يقيناً *** بأن حياتي كساعة

فلم لا أكون ضنيناً بها *** وأجعلها في صلاح وطاعة

دعوة للتوبة قبل أن يقول الإنسان كما وصفه المولى جل وعلا: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}[الزمر: 56].

اللهم اجعلنا ممن وفقتهم لاستغلال أوقاتهم وأعمارهم بطاعتك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا ممن ندموا على تفريطهم وعصيانهم فتابوا وأنابوا إليك يا رب العالمين.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..


1 أخرجه البخاري كتاب الرقاق باب قول النبي: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل برقم (5937).

2 رواه الطبراني في المعجم الكبير (9793)، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (946).

3 تفسير القرآن العظيم (3/365-366).  

4 تفسير القرآن العظيم (3/266).

5 تفسير القرآن العظيم (3/128).

6 الفوائد (ص 57).