كيف يستقبل الناس رمضان

كيف يستقبل الناس رمضان

 

كيف يستقبل الناس رمضان؟

 

الخطبة الأولى:

الحمد لله ما حمده العباد، والشكر له على التوفيق والسداد، والصلاة والسلام على أزكى العباد، وشفيع العالمين يوم التناد، وعلى آله وأصحابه الزهاد الأكرمين العُبَّاد، أما بعد:

فقد فتحت لكم الأبواب، وأقبل عليكم أكرم الضيوف، فبم أنتم مكرموه، وبم أنتم مضيفوه؟ فقد أتاكم يتطلب حق الضيافة، وحسن الإكرام، وقد علمتم أنه لا يريد منكم طعاماً ولا شراباً، ولا يأمل منكم مأوى ولا سكناً، إنه ضيف عزيز، وزائر كريم، أتاكم حاملاً إليكم الرحمات، وجالباً لكم البركات، فلست أدري مِن كرمه: مَن الضيف ومن المُضِيْف.

 

إنه شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ(185)سورة البقرة. إنه شهر التوبة والمغفرة، إنه شهر الصبر والعبادة، إنه شهرٌ محفوف بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، اشتهرت بفضله الأخبار، وتواترت فيه الآثار، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ)1.

 

وقد فرض الله -سبحانه وتعالى- الصوم على هذه الأمة لمقصد عظيم وقد بينه الله تعالى في محكم كتابه أثناء التشريع حيث قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183) سورة البقرة، وهذا إيماء إلى الحكمة في مشروعية الصيام، ألا وهي تحقيق التقوى لله من قبل الصائم، وليس الصيام جديداً في عهد البشرية، لا، إنه دربٌ سلكه من قبلنا الصالحون من الأنبياء وأتباعهم.

 

أيها المسلمون: إن الناس في استقبال هذا الشهر المبارك على ثلاثة أصناف:

صنفان: يفرحان بقدوم هذا الشهر.

وصنف: يغتم بقدوم هذا الشهر.

 

فالصنف الأول: وهم طائفة المؤمنين، يفرحون بقدوم رمضان، ويسرون لمجيئه، وكأنما هو العيد حل بين أظهرهم بل أعظم من العيد، ويعتبرونه فرصة تجارة مع الله، وذلك لأسباب عدة:

1.  أن الصيام عندهم أمر يسير، وأنفسهم تشتاق بلهف شديد إليه، فهم متعودون أصلاً على الصيام، فطوال العام وهم حلفاء الصيام، هذا يوم الاثنين والخميس، وهذه أيام البيض، وهذا يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهم مع ذلك يحتسبون الأجر العظيم عند الله تعالى.

 

ولهذا -أيها المسلمون- كان الصيام عليهم يسيراً، وكل من داوم على صيام النوافل سهل عليه الفرض وحبب إليه، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، وقد ذكر أن بعض السلف باع جارية له من أحد الناس، فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات؛ لاستقبال رمضان –كما يصنع كثير من المسلمين اليوم- فلما رأت الجارية ذلك منهم، قالت: لماذا تصنعون ذلك؟ قالوا: لاستقبال شهر رمضان.

 

فقالت: وأنتم لا تصومون إلا في رمضان؟! والله لقد جئت من عند قوم السَّنة عندهم

كأنها كلها رمضان، لا حاجة لي فيكم ردوني إليهم. ورجعت إلى سيدها الأول.

2.  لمعرفتهم أن امتناعهم عن الملذات في الدنيا بالصوم سبب للحصول عليها في الآخرة، ونيلها في جنات النعيم حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

3.  لعظمة العبادة في قلوبهم، وإدراكهم قيمة الثواب المترتب على الصيام، مما يجعلهم يتنافسون فيه ويتسابقون عليه، فهم يدركون ويوقنون أن رمضان فيه تضاعف الأجور، وتزيد الحسنات، وعلى هذا فلا عجب في فرحهم بقدوم هذا الشهر المبارك، فلقد صار عندهم كالحبيب المفارق حين يعود.

 

فهذا هو الصنف الأول من الناس في استقبال رمضان المبارك.

وأما الصنف الثاني: فهم طائفة من أهل الدنيا، يفرحون بقدوم رمضان، ولكن فرحة غير الفرحة الأولى، وسرور غير السرور، لا لشيء، ولكن يفرحون لقدوم رمضان لأنه فرصة رابحة لا تعوض بثمن، فرصة تجارة ورفاهية، وهذه الطائفة من الناس تجعل من رمضان فرصة لتسويق تجارتهم، وإنفاذ بضائعهم، وترويج سلعهم، فترى الناس في المساجد ما بين تالٍ للقرآن وراكع وساجد، وما بين معتكف وماكث في بيوت الله، وقائم لله وهو في سوقه يغري الشراة، ويجمع الأموال ولربما شغله ذلك عن الصلوات المفروضة فضلاً عن النوافل والتراويح وقيام الليل، ولا أعني أيها المسلمون أن نترك تكسبنا وتجارتنا، لا، ولكن لنعطي أنفسنا شيئاً من الأجر الذي ندخره لنا عند الله، فـ: مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ(96) سورة النحل، ولا مانع حينئذ من التكسب وطلب الرزق حيث لا يكون شاغلاً لنا عن الأهم.

 

وهناك أناس آخرون يفرحون بقدوم رمضان لأنه يكون موسم تفنن في وجبات العشاء، وتكثر أنواع الطعام، سبحان الله! هل صار رمضان موسم الصوم والعبادة موسماً للأكل والتنعم! حاشا لله ربنا.

 

وهناك أناس يفرحون بمقدم رمضان، لا لصلاة ولا لصيام، ولكن لخلو الجو وسنوح الفرصة لأن يبثوا ما يشتهون من المسلسلات والحلقات والبرامج التي لا تزيد المسلمين إلا وهنا، وتراهم يعرضون الأفلام والمهرجانات ويتفننون في إقامة السهرات والملهيات وما تحتوي عليه من الأغاني والموسيقى والمنكرات، نعوذ بالله من سخط الله.

 

ومن الناس من يجعله ليلاً طويلاً ينام آخر شعبان ويستيقظ أول شوال، وأما رمضان فقضاه نوماً وكسلاً وبطالة.

عباد الله: أيعقل أن نجعل من شهر الرحمة والمغفرة موسماً للأكل والسهرة، ومحطة للتزود من الباطل والإثم، أيليق هذا بأمةٍ وسط بين الأمم! أيصح هذا من أمة عهد إليها نبيها أن تحذو حذوه، وتتبع سنته!.

 

وأما الصنف الثالث: فهم أناس يغتمون بقدوم هذا الشهر المبارك، وكأنما نزلت عليهم فيه كرب أيوب، وفاجعة أم موسى، حتى حزنوا حزن يعقوب! هؤلاء صنف من الذين جعلوا القرآن عضين، هؤلاء صنف من الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، هؤلاء قوم استهواهم الشيطان واستحكمت عليهم الشهوات، وطمست على أعينهم وقلوبهم الشبهات، هؤلاء قوم استعظموا أداء العبادة وإن كانت لكبيرة إلا على الخاشعين، واسترهبوها وجاؤوا بفحش عظيم، وقد روي عن بعض هؤلاء أنه قال حين رأى هلال رمضان:

 

دعاني شهر الصوم لا كان مـن شـهر فلو كان يعدينـي الإمـام بقــدره

 

ولا صمت شهراً بعده آخـر الـدهــر

على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر

 

فأصابه عقيب هذا القول صرع، فكان يصرع في اليوم مرات إلى أن مات، ولم يبلغ شهراً مثله2.

وهذا كله من ضعف الإيمان، وعدم التسليم لله تعالى بما أراد.

أيها المسلمون: هذه أصناف الناس في استقبال رمضان، وكلٌ يدعي وصلاً بليلى، وليلى لا تقر لهم بذاك، إلا من كان على شاكلة الصنف الأول فهم إن شاء الله تعالى على خير.

 

إن الله تعالى افترض علينا الصيام، وجعله لناً محطة نتزود فيها من الصالحات، ونشحذ هممنا في الطاعات، ولنتقرب إلى الله ونزداد قرباً منه وحباً له جل في علاه، أما أن نجعل من رمضان موسم ترفيه أو موسم نزهة وتنعم فهذا لم يرضَ به الله ولا رسوله.

 

عباد الله، كان السلف رضوان الله عليهم يستقبلون رمضان ستة أشهر، ويستقبلونه بالعبادة وقراءة القرآن وقيام الليل والإكثار من النوافل وبذل الصدقات وسائر القربات احتفاء برمضان واستقبالاً له، حرصاً منهم على الفوز في هذا الشهر الكريم، أسأل الله أن يجعلنا من أولئك وأن يلحقنا بركبهم، إنه مجيب الدعاء.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

أيها المسلمون الكرام:

أيرضيكم أن يكون رمضان شفيعاً لأصحابه، ونحن نحرم تلكم الشفاعة!

أم يرضيكم أن يدخل الصائمون من باب الريان أفواجاً فرحين، ونبقى حاسرين خاسرين محرومين!.

 

لم

لا نقبل على الطاعات والنوافل استغلالاً لهذا الشهر المبارك، ونكون من الشاكرين لله رب العالمين على أنعمه التي اختصنا بها، واجتبانا لها؟!

لم لا نرحب بشهر رمضان أجمل ترحيب، ترحيباً بقلوبنا ومشاعرنا وجوارحنا استعداداً منا لأمر الله تعالى وفريضته؟!

ألا مرحباً برمضان، وأهلاً وسهلاً به ضيفاً كريماً عزيزاً في نفوسنا:

 

فديتك زائراً في كــل عـام وتقبل كالغمام يفيــض حيناً وكم في الناس من كلف مشوقٍ بني الإسلام هذا خــير ضيفٍ  

 

تحيــَّا بالســلامة والسلامِ ويبقى بعــده أثر الغمــامِ إليك وكم شجـــيٍّ مستهامِ إذا غشي الكريم ذرا الكرامِ3

 

يا رمضان:

 

تبدو وثغرك للأحبــة باسـمٌ والمسلمون عيـونهم ظمأى إلى يدعو عباد الله: هيـا استبشروا

 

كالروض يزكو في الربيع ويسعدُ شلال ضـوء في السماء يزغردُ فالسعد لاح وفجره المتورِّدُ4

عباد الله: كونوا كما كان أجدادكم من السلف الصالح رضوان الله عليهم أئمة داعين إلى الخير، ساعين في نفع الغير، فتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، واجعلوا رمضان منطلقاً لكم، ومبعثاً إلى الخير.

اللهم اجعلنا من عتقاء هذا الشهر الكريم، اللهم أيقظنا من رقدات الغفلات، وأعنا على اغتنام الأوقات في الباقيات الصالحات.

 


 


1 صحيح البخاري: (3035)، وصحيح مسلم: (1793)واللفظ للبخاري.

2 المنتظم لابن الجوزي: (3/273).

3 من كلمات مصطفى صادق الرافعي نقلاً عن: رمضان في ذاكرة التاريخ وديوان الشعر لعبد الرحمن الدوسري: ص:(94).

4 من كلمات مصطفى صادق الرافعي نقلا عن: المرجع السابق: ص:(98).