كفر النعم

كفـر النعـم

الحمد لله على ما له من الأسماء الحسنى، والمثل الأعلى، وما خلقه وحكم به في الأولى والأخرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وله ترفع الشكوى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى، ونبيه المجتبى، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه العلماء الفضلاء النجباء .. أما بعد:

فاتقوا الله رحمكم الله، وبادروا وشمروا، واعملوا وأحسنوا وابشروا.

عباد الله: اعلموا – رحمكم الله – أن الله  قد أنعم علينا بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى، فنعمة المال، ونعمة الصحة والأمن، ونعمة الأولاد، ونعمة الدين، وكفى بها من نعمة قال تعالى: وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (سورة إبراهيم:34)، وقال: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (سورة النحل:18) أي: لا تطيقوا عدها فضلاً أن تطيقوا القيام بشكرها، ثم أعقبها بقوله: إنَّ الله لغفور رحيم تنبيهًا على أن العبد في محل التقصير، لولا أن الله يغفر له تقصيره في أداء شكر نعمه، ويرحمه ببقائها مع تقصيره في شكرها”1 قال تعالى: وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (سورة النحل:80)، وقال ​​​​​​​: وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (سورة النحل:81)، وقال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (سورة طه:53)، وقال تعالى: وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (سورة القصص.:73)، وقال  : اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (سورة غافر:61)، وقال عز من قائل: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا والغالب على الإنسان – عباد الله – كفر نعم الله، والتنكر لها كما قال تعالى: وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (سورة سبأ:13).

ألا وإنه مما يجب عليكم – عباد الله – تقييد هذه النعم بشكرها، وعدم كفرانها وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (سورة لقمان:12) يقول الله: “ولقد أعطينا لقمان الحكم والعلم والإصابة في القول، وقلنا له: اشكر الله على ما أعطاك من النعم، ومن يشكر فإنما يبتغى الخير لنفسه، ومن كفر النعم ولم يشكرها فإن الله غير محتاج إلى شكره، وهو مستحق للحمد وإن لم يحمده أحد”2.

وأمر الله – تعالى – بني إسرائيل بشكر نعمه فقال: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ (سورة البقرة:40) وامتن عليهم بقوله: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (سورة البقرة:211ومن هداية الآيتين:

  • التحذير من كفر النعم لما يترتب على ذلك من أليم العذاب، وشديد العقاب، ومن أَجَلِّ النعم نعمة الإِسلام فمن كفر به، وأعرض عنه؛ فقد تعرض لأشد العقوبات وأقساها، وما حلَّ ببني إسرائيل من ألوان الهوان والدون دهراً طويلاً شاهد قوي، وما حل بالمسلمين يوم أعرضوا عن الإِسلام، واستبدلوا به الخرافات، ثم القوانين الوضعية؛ شاهد أكبر أيضاً3.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (سورة إبراهيم:6)، وتدل هذه الآيات على: مشروعية التذكير بنعم الله لنشكر ولا نكفر، وأن الله – تعالى – وعد بالمزيد من النعم لمن شكر نعمه، وأن كفر النعم سبب زوالها، وبيان غنى الله – تعالى – المطلق على سائر خلقه، فالناس إن شكروا لأنفسهم، وإن كفروا كفروا على أنفسهم، أي شكرهم ككفرهم عائد على أنفسهم4.

وأنكر على قوم جحودهم نعم الله فقال: أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ (سورة النحل:71)، وقال تعالى: وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (سورة النحل:112وقال تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ۝ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ۝ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (سورة سبأ:15-17).

عباد الله: فما روى قوم من شيء يخالف أصل الديانة والتوحيد مثل: كفر النعم، والإشراك بالله، واستحلال الظلم، والأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف”5.

أيها الناس: اتقوا الله – تعالى -، واشكروه على ما أنعم به عليكم من النعم العظيمة نعم الدنيا، ونعم الدين، نعم كثيرة وافرة: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ، اشكروا الله على هذه النعم فإن الشكر سبب لمزيدها وبقائها، وإن كفر النعم سبب لنقصها وزوالها قال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ وقال سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ6.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ  ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الكريم المنان، المتفضل على عباده بأصناف النعم وأنواع الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الديان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالهدى والرحمة، وصلاح القلوب والأبدان؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً أما بعد:

أيها الناس: إن شكر الله على نعمته هو القيام بطاعته، وهي: أن تفعلوا ما أمركم الله به، وتتركوا ما نهاكم عنه سواء في كتابه، أو في سنة رسوله ﷺ، فإن من يطع الرسول فقد أطاع الله، ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً.

إن العاصي ليس بشاكر لربه ولو قال شكراً لله بلسانه، فأيُّ فائدة لشكر الإنسان ربه بلسانه وهو مقيم على معصيته، أفلا يخشى من شكر ربه بلسانه وهو مقيم على معصيته أن يقال له: كذبت إنك لم تشكر ربك حق شكره.

أيها الناس: إن أكبر نعمة أنعم الله عليكم أن هداكم للإيمان والإسلام، مخلصين لله – تعالى -، متبعين لرسوله ، فيما كان قوم يتخبطون العشواء في دينهم ما بين مغضوب عليهم علموا الحق واستكبروا عنه، وضالين جهلوا الحق فلم يهتدوا إليه.

وإن من نِعَم الله عليكم هذا الأمن والاستقرار، وقد أصيب قوم بالخوف والقلق والقتال، وإن من نعم الله عليكم ما يسره لكم من أنواع الأرزاق تأتيكم رغداً من كل مكان، وقد كان قوم قبلكم لا يستطيعون لقمة العيش إلا بتعب وعناء، وربما ماتوا من الجوع والإقلال، فاشكروا الله – تعالى – على هذه النعم، واستعينوا بها على طاعته، وإياكم أن تكون نعم الله عليكم سبباً لأشركم وبطركم وفسوقكم عن أمر ربكم، فإن ذلك أقوى معول لهدمها، وأقوى سبب لزواله7.

وعن أبى نضرة قال: كان المسلمون يرون أن من شُكْرِ النعم أن يحدّثَ بها8، وقد روي في الأثر: أن داود  قال: يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك عليَّ؟ فقال الله – تعالى -: الآن شكرتني يا داود أي: حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر النعم، وقال الشافعي – رحمه الله -: “الحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة تُوجِب على مُؤدى ماضي نعَمه بأدائها نعمة حادثةَ توجب عليه شكره بها”، وقال القائل في ذلك:

لو كل جَارِحَة مني لهَا لُغَةٌ تُثْنيِ عَلَيكَ بما أولَيتَ مِنْ حَسنِ
لَكَانَ ما زَادَ شُكري إذ شَكَرت به إليكَ أبلغَ في الإحسَان والمننِ

وفي الحديث: وأبوء لك بنعمتك علي أي أعترف بها من قولهم: باء بحقه أي أقر به، وأصله البواء ومعناه اللزوم، ومنه بوأه الله منزلاً إذا أسكنه، فكأنه ألزمه به وأعترف بذنوبي أي أعترف أولا بأنه تعالى أنعم عليه، ولم يقيده ليشمل جميع أنواع النعم، ثم اعترف بالتقصير، وأنه لم يقم بأداء شكرها، ثم بالغ فعدَّه ذنباً مبالغة في هضم النفس تعليما للأمة، والنعم أضياف، وقراها الشكر، والبلايا أضياف، وقراها الصبر، فاجتهد أن ترحل الأضياف شاكرة حسن القرى، شاهدة بما تسمع وترى9.

ثم صلوا وسلموا على معلم الناس الخير سيدنا ونبينا محمد كما أمركم الله – جل وعلا – بذلك فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (الأحزاب:56) اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، والصحابة والتابعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومَنِّك يا أكرم الأكرمين. اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


1– البحر المديد (ج3 / ص252)

2– المنتخب (ج2 / ص216)

3– أيسر التفاسير للجزائري (ج1 / ص98)

4– أيسر التفاسير للجزائري (ج2 / ص258)

5– البدء والتاريخ (ج1 / ص127)

6– الضياء اللامع من الخطب الجوامع (ج3 / ص211)

7– الضياء اللامع من الخطب الجوامع بتصرف (ج3 / ص211)

8– تفسير الطبري (ج24 / ص489)

9– الآداب الشرعية (ج2 / ص280)