قول الزور

قول الزور

 

قول الزور

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله – صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين – وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

عباد الله:

فقد جاء في صحيحين عن أبي بكرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟) ثلاثاً، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: (ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور) فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت”1.

والأظهر من السياق أن المراد لا يشهدون الزور أي لا يحضرونه، ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}(72) سورة الفرقان، أي لا يحضرون الزور، وإذا اتفق مرورهم به مروا ولم يتدنسوا منه بشيء، ولهذا قال: {مَرُّوا كِرَامًا}.

وقوله: “وكان متكئاً فجلس” يشعر بأنه اهتم بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئاً، ويفيد ذلك تأكيد تحريم الزور وعظم قبحه، وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعاً على الناس، والتهاون بها أكثر، فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يصرف عنه الطبع، وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة، كالعداوة والحسد وغيرها، فاحتيج للاهتمام بتعظيمه، و ليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها من الإشراك قطعاً، بل لكون مفسدة الزور متعدية إلى غير الشاهد بخلاف الشرك، فإن مفسدته قاصرة غالباً”2.

وقول الزور أبلغ من فعله، ولأنهم إذا مدحهم على مجرد تركهم شهوده، دل على أن فعله مذموم عنده معيب؛ إذ لو كان فعله جائزاً والأفضل تركه لم يكن في مجرد شهوده أو ترك شهوده كبير مدح، إذ شهود المباحات التي لا منفعة فيها، وعدم شهودها، قليل التأثير.

والواقع عباد الله: أنه قد كثر في هذه الأيام قول الزور بين الناس، وحضور أماكنه، والخوض فيه، فانتشرت شهادة الزور، وأنتشر اللهو الباطل من الأغاني والمسلسلات والفضائيات وكل هذا من الزور المنهي عنه.

فينبغي عباد الله: أن تجتنبوا قول الزور كله، ولا تقربوا منه شيئاً لتماديه في القبح والسماجة، وما ظنك بشيء قرن بعبادة الأوثان.

“وعدم شهادة الزور قد تكون على ظاهر اللفظ ومعناه القريب، أنهم لا يؤدون شهادة زور، لما في ذلك من تضييع الحقوق، والإعانة على الظلم. وقد يكون معناها الفرار من مجرد الوجود في مجلس أو مجال يقع فيه الزور بكل صنوفه وألوانه، ترفعاً منهم عن شهود مثل هذه المجالس والمجالات. وهو أبلغ وأوقع. وهم كذلك يصونون أنفسهم واهتماماتهم عن اللغو والهذر:{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}(72) سورة الفرقان، لا يشغلون أنفسهم به، ولا يلوثونها بسماعه؛ إنما يكرمونها عن ملابسته ورؤيته بله المشاركة فيه، فللمؤمن ما يشغله عن اللغو والهذر، وليس لديه من الفراغ والبطالة ما يدفعه إلى الشغل باللغو الفارغ، وهو من عقيدته ومن دعوته ومن تكاليفها في نفسه وفي الحياة كلها في شغل شاغل”3.

عباد الله: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حذر من الزور، وقوله، والعمل به حتى قال:(من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)4.

وقال تعالى:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}(30) سورة الحـج، الذي هو الباطل، وسمي زوراً لأنه مائل عن الحق، والمراد هنا قول الزور على العموم، وأعظمه الشرك بالله، بأي لفظ كان، وقال الزجاج: “المراد بقول الزور ها هنا تحليلهم بعض الأنعام وتحريمهم بعضها، وقولهم هذا حلال وهذا حرام، وقيل المراد به شهادة الزور”5 فشهادة الزور سبب لزرع الأحقاد و الضغائن في القلوب، لأن فيها ضياع حقوق الناس و ظلمهم، و طمس معالم العدل و الإنصاف، و من شأنها أن تعين الظالم على ظلمه، و تعطي الحق لغير مستحقه، و تقوض أركان الأمن، و تعصف بالمجتمع و تدمره. لقد بلغت الاستهانة و قلة التقوى بالبعض أنه كان يقف بأبواب المحاكم مستعداً لشهادة الزور رجاء قروش معدودة بحيث تحولت الشهادة عن وظيفتها فأصبحت سنداً للباطل، و مضللة للقضاء، و يستعان بها على الإثم و البغي و العدوان.

عباد الله إن من صفات المؤمنين أنهم :{لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}

أي: لا يحضرون الزور أي: القول والفعل المحرم، فيجتنبون جميع المجالس المشتملة على الأقوال المحرمة أو الأفعال المحرمة، كالخوض في آيات الله والجدال الباطل والغيبة والنميمة والسب والقذف والاستهزاء والغناء المحرم وشرب الخمر وفرش الحرير، والصور ونحو ذلك، وإذا كانوا لا يشهدون الزور فمن باب أولى وأحرى أن لا يقولوه ويفعلوه.

وشهادة الزور داخلة في قول الزور تدخل في هذه الآية بالأولوية:{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} وهو الكلام الذي لا خير فيه ولا فيه فائدة دينية ولا دنيوية ككلام السفهاء ونحوهم {مَرُّوا كِرَامًا} أي: نزهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيه، ورأوا أن الخوض فيه وإن كان لا إثم فيه، فإنه سفه، ونقص للإنسانية والمروءة، فربأوا بأنفسهم عنه. وفي قوله:{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} إشارة إلى أنهم لا يقصدون حضوره ولا سماعه، ولكن عند المصادفة التي من غير قصد يكرمون أنفسهم عنه”6.

وقال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – : “تعدل شهادة الزور بالشرك، وقرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}(30) سورة الحـج، و عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال : قدم رجل من العراق على عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال: جئتك لأمر ماله رأس ولا ذنب، فقال عمر: و ما ذاك؟ قال: شهادة الزور ظهرت بأرضنا، قال: وقد كان ذلك؟ قال: نعم، فقال عمر بن الخطاب: والله لا يؤسر (لا يحبس) رجل في الإسلام بغير العدول.

فشهادة الزور نوع خطير من الكذب، شديد القبح سيئ الأثر، يتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس أو أخذ مال أو تحليل حرام أو تحريم حلال، و قد حكى البعض الإجماع على أن شهادة الزور كبيرة من الكبائر.

ولا فرق بين أن يكون المشهود به قليلاً أو كثيراً فضلاً عن هذه المفسدة القبيحة الشنيعة جداً، ولا يحل قبولها و بناء الأحكام عليها.

أسأل الله تعالى أن يطهرنا من الزور وحضوره والقول به إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 الحمد لله مُيسرِ سبل العبادة لمن سلكها، ومبين طُرق النجاة لمن طلبها، وقابل الحمد من قلوب عن الغفلة والغواية والردى أبعدها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق النفس من العدم فأنطقها، وبث في الكون آثار وحدانيته فجلاها وأظهرها، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله خير البرية أجمعها وأزكاها وأطهرها – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.  

أما بعد:

 فعلى الرغم من خطورة اقتطاع حقوق الناس بشهادة الزور إلا أن لها معاني أخر لا تقل في خطورتها، فالزور هو الشرك و هو الغناء، و هو الكذب، أو هو أعياد المشركين، وهو مجالس الباطل، وقال ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله تعالى:{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}(30) سورة الحـج، يعني: الافتراء على الله و التكذيب، و قال الطبري: و اتقوا قول الكذب و الفرية على الله بقولكم في الآلهة:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}(3) سورة الزمر، وقولكم للملائكة هي بنات الله، و نحو ذلك من القول فإن ذلك كذب و زور و شرك.

 وعن عائشة – رضي الله عنها – أن امرأة قالت: يا رسول الله أقول: إن زوجي أعطاني ما لم يعطني؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه و سلم-: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)7. و هكذا فالزور عبارة عن وصف الشيء على خلاف ما هو عليه فعلاً، و هو من جملة الكذب.

وفي الحديث :(خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجئ أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه و يمينه شهادته)8 قال إبراهيم: وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد. وإذا كانت شهادة الزور مذمومة، فشهادة الحق محمودة، ولذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}(النساء:135).

وقال عز من قائل: {إلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (الزخرف: من الآية86). فنسأله سبحانه أن يجعلنا من الشهداء بالحق القائمين بالقسط إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.

 فاتقوا الله رحمكم الله، واستقيموا إلى ربكم واستغفروه، ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال عز من قائل:

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}الأحزاب:56.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم افتح مسامع قلوبنا لقبول الحق يا رب العالمين، اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا، واجعلنا هداةً مهتدين.


 


1 – صحيح البخاري – (ج 9 / ص 136 – 2460)  وصحيح مسلم – (ج 1 / ص 241 – 126)

2 – فتح الباري لابن حجر – (ج 8 / ص 164)

3 – في ظلال القرآن – (ج 5 / ص 333)

4 – صحيح البخاري – (ج 6 / ص 472 – 1770)

5 – فتح القدير – (ج 5 / ص 114)

6 – تفسير السعدي – (ج 1 / ص 587)

7 – صحيح البخاري – (ج 16 / ص 239 – 4818)  وصحيح مسلم – (ج 11 / ص 61 – 3972)

8 – صحيح البخاري – (ج 9 / ص 133 – 2458) وصحيح مسلم – (ج 12 / ص 358 – 4601)