طيب المسجد، وزينة الصلاة

طيب المساجد وزينة الصلاة

سلمان بن يحيى المالكي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن المساجد أماكن يشع فيها نور النبوة، ويلتئم فيها صف الأمة، منزهة عن كل لغو ودنس، ومحفوظة من كل ضرر، ملكها بين المسلمين مشاع، وحقها عليهم المحبة والإكرام، وعمارتها بصالح الأعمال إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّه والمساجد من أحب البلاد إلى الله، وأشرفها منزلة، من أحبَّها لأجل الله كان حبه لها دين وعبادة، وربح وزيادة، ومن تعلق قلبه بها أظله الله تحت عرشه يوم القيامة، صيانتها عن الأدناس قربة، وتنظيفها طاعة، وتطييبها عبادة، رأى الرسول  نخامة في جدار المسجد فتغير وجهه، منكراً ذلك الفعل، وآمراً بإزالته، ومن عظيم فضل العناية بالمسجد أن الجارية السوداء دخلت الجنة بسبب كنسها له.

أحبتي الكرام: إن واقع كثير من المساجد اليوم تشكو حالها، وتبكي مآلها، لقلة وعي أكثر أهلها بأحكامها وآدابها، فهذا يرتادها بلباس نومه، وذاك بثوب حرفته، وآخر ببنطال، ورابع بكريه رائحته، وخامس بسوء فعله، كل هذا يدل على عدم الاحترام والتقدير للمسجد وللمصلين، وقد قال النبي : من أكل الثوم والبصل فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم رواه البخاري ومسلم، فأربأ بنفسك أخي الكريم عن أذية إخوانك المصلين، وملائكة الله المقربين.

إن حسن المظهر، وجميل الملبس، وطيب الرائحة؛ مطالب إسلامية رغبّ الشارع فيها عند أداء الصلاة، وعند حضور الجمع والجماعات يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ فجدير بالمؤمن أن يصرف شيئاً من زينته لله ، وذلك عند الوقوف بين يديه، فيأتي إلى عبادة ربه على أحسن حال، وقدوتنا في ذلك نبينا محمد بن عبد الله  حيث كان يلبس أحسن لباس، ويتعطر بأزكى رائحة، بل كان عبق طيبه يفوح في طريقه، وقد أخذ بهذا المبدأ خير القرون من بعده فنهجوا نهجه، وسلكوا هديه، فعظموا الدين، فأعلى الله شأنهم، وأبقى ذكرهم، فلنا مع أولئك الرجال الأفذاذ وقفات لمعرفة واقع المساجد في نفوسهم، ومكانة الصلاة في قلوبهم لنقيس حالنا بحالهم، ونلتزم نهجهم، ونحذر مخالفتهم، وإليكم هذه الوقفات لكم أحبتي يا أهل القلوب الحية، والنفوس الزكية، والأذان الصاغية؛ للاحتذاء والاقتداء والاهتداء، والله المستعان، وعليه التكلان.

الوقفة الأولى: منزلة الطيب عند رسول الله :

الطيب من كل شيء هو مختار الله ، لهذا فطر الناس عليه، وجمع أطيب الأشياء لنبيه ، فله من الأخلاق والأعمال أطيبها وأزكاها، ومن المطاعم أطيبها وأزكاها، ومن الروائح أطيبها وأزكاها، لذا كان من أخلاقه التطيب، يحبه ويكثر منه، بل هو إحدى محبوباته الدنيوية ففي الحديث: حُبب إلي من الدنيا: النساء، والطيب، وجُعلت قُرة عيني في الصلاة (رواه أحمد وصححه الألباني).

ومن خصائصه طيب الرائحة، فجسمه يفوح طيباً فعن أنس بن مالك  قال: ما شممت عنبراً قط، ولا مسكاً، ولا شيئاً؛ أطيب من ريح الرسول (رواه مسلم) بل إذا وضع يده على رأس الصبي عَرف أهله أنه قد مسّ ابنهم لطيب رائحة الصبي، ومع هذه الرائحة العطرة فقد كان الرسول يكثر ويبالغ في استعمال الطيب، حتى أنه ليوجد لمعان المسك في مفرق رأسه، ولربما استمر الطيب في رأسه أياماً لكثرته، وكان يُعرف بطيب رائحته إذا أقبل أو أدبر، فمن كانت هذه صفته فهو أبعد الناس عن الرائحة الكريهة، بل إنه ترك كثيراً من المباحات كالثوم، والبصل، والكراث ونحوها لرائحتها الكريهة، فهو طيب لا يقبل إلا الطيب، فهذه صورة مشرقة، وأدب رفيع، وحقيقة ثابتة؛ نسوقها إلى كل مسلم ليرتفع في سلوكه وأدبه إلى مصافّ النفوس السليمة مجانباً كل خلق قد يؤدي إلى أذية المسلمين عامة، والمصلين خاصة.

الوقفة الثانية: طيب المساجد:

أخي المصلي.. اعلم أنه كلما شرف المكان وطاب كلما كان أولى أن يُشرف ويحترم، ولما كان الطيب والبخور من علامات الإكرام والتشريفP كان حريّا أن نجدها في أماكن العبادة فهي أولى بالشذا، وأحرى بالندى، كيف لا والمسلم مأمور بأن يأخذ زينته عند كل مسجد يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ فالمساجد أماكن عامة، تؤدى فيها أعظم عبادة، فهي بحاجة إلى كل عناية ورعاية، لتؤدي النفس عبادتها وهي مقبلة بخشوع وطمأنينة، أرأيت آكل الثوم والبصل لما آذى المصلين برائحته أمره الشارع بالخروج من المسجد تعزيراً له، إذاً؛ طلب الرائحة الطيبة للمسجد مطلب رفيع، وغاية مقصودة في دين الإسلام، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “أمر رسول ببناء المساجد في الدور (والدور: هي الأحياء)، وأن تنظف وتطيب” (رواه الخمسة إلا النسائي ورجاله ثقات وعند ابن ماجة “واتخذِوا على أبوابها المطاهر، وجمّروها في الجُمع” (والمطاهر هي محال الوضوء، والتجمير: هو التبخر لها).

وتطييب المساجد عام لكل أحد من إمام ومؤذن وغيرهما، وإن أُوكل الأمر لأحد كان أفضل وأكمل، والتطيب يكون بعود البخور، أو الندى وغيرهما مما هو مستحسن عُرفاً، وسواء كان مما يُتبخر به، أو يُرش رشاً، أو غيرهما، فالمقصود هو جلب الرائحة الزكية للمسجد، وهذه الخصلة غابت عن الكثير من المصلين مع أنها قربة وعبادة، وطاعة وامتثال، ويتأكد تطييب المساجد يوم الجمعة لما سبق، ولأن عمر كان يطيب مسجد الرسول  كل جمعة قبل الصلاة، كما أن عبد الله بن الزبير كان يبخر الكعبة في كل يوم، ويضاعف الطيب يوم الجمعة، وسار على هذه السنة السلف والخلف، حتى أن معاوية  أجرى وظيفة الطيب للكعبة عند كل صلاة، وقالت عائشة رضي الله عنها “لأن أُطيّب الكعبة أحب إليّ من أن أُهدي لها ذهباً وفضة”، وليعلم الجميع أن جلب الرائحة الزكية للمسجد تزيل كثيراً مما قد يعتريه من روائح، وتجلب السرور للمصلين، لأن من فوائد الطيب أنه يفرح القلب، ويغذي الروح، وكم هو جميل أن يتفق اثنان أو ثلاثة لتطيب المسجد كل أسبوع مثلاً، أو يوم الجمعة، فهكذا كانت المساجد الإسلامية محل عناية ورعاية، وتطهير وتطييب، حتى اختلت الموازين، وانقلبت المفاهيم في هذا الزمن عند كثير من الناس إلا ما رحم ربي، فنتج عنه قلة الوعي بأحكام المساجد عند كثير من المصلين.

الوقفة الثالثة: حكم وضع مباخر العود في قبلة الصلاة:

قد يعتري بعض المصلين الحرج عند وضع مباخر العود في قبلة المصلين بحجة وضع الجمر فيها وذلك أثناء تطييب المسجد، وقد أجاب على هذا الإشكال شيخنا محمد بن عثيمين -رحمه الله- فقال: “لا حرج في ذلك، ولا يدخل هذا فيما ذكره بعض الفقهاء، في كراهة استقبال النار؛ فإن الذين قالوا بكراهية استقبال النار علّلوا هذا بأنه يشبه المجوس في عبادتهم للنيران، فالمجوس لا يعبدون النار على هذا الوجه، وعلى هذا فلا حرج من وضع حامل البخور أمام المصلين، ولا من وضع الدفايات الكهربائية أمام المصلين أيضاً، لا سيما إذا كانت أمام المأمومين وحدهم دون الإمام. الوقفة الرابعة: صور من تطيب السلف للصلاة، وعند ارتياد المساجد:

إن سلفنا الصالح قد استنار بسيرة المصطفى فسار على دربه، واهتدى بهديه، فمن ذلك خصلة الطيب والتطيب، حتى أن بعضهم صار يُعرف بالرائحة الزكية في ذهابه وإيابه لتزينه بأطيب الطيب، وحينما يقصد الصلاة والمسجد، وإليكم شيئاً من حالهم في هذا الأدب الرفيع لمن أراد أن يرتقي إلى مصافهم لإيقاظ الهمم، ودفع العزائم نحو ذلك؛ فمن حالهم، ما كان من سلمة أنه إذا توضأ أخذ المسك فمسح به وجهه، ويديه، وكان عبد الله بن مسعود  يُعرف بريح الطيب، وكان يعجبه إذا قام إلى الصلاة الريح الطيبة، والثياب النقية، أما عبد الله بن عباس  فقد كان إذا خرج إلى المسجد عَرف أهل الطريق أنه مر من هنا، وكان عبد الله بن عمر  “يتطيب للجمعة والعيدين، وكان يأمر بثيابه أن تجمّر كل جمعة، وعُرف عثمان بن عروة بن الزبير بكثرة وضع الغالية، وكان حين يقوم من مصلاه يأتي الناسُ إلى مكانه، ويسْلُتون الغالية من على الحصباء مما أصابها من لحيته، قال عثمان بن عبيد الله: رأيت ابن عمر، وأبا هريرة، وأبا قتادة، وأبا أسيد الساعدي؛ يمرون علينا ونحن في الكُتّاب فنجد منهم ريح العبير وهو الخلوق (مصنف بن أبي شيبة (2/305)، والآداب الكبرى (3/529)، وموطأ مالك) هكذا كانت مكانة الصلاة والمساجد عند سلفنا الأفذاذ لمعرفتهم حق المعرفة عظم تلك العبادة، ولمعرفتهم أيضاً بين يدي من سيقفون، فرحمهم الله رحمة واسعة.

الوقفة الخامسة: الصلاة وزينة اللباس:

لما كانت الصلاة عبادة ربانية، وصلةً بين العبد وربه، يلتقي فيها العبد مع معبوده، والحبيب مع محبوبه، ولما كان من تعظيم الله  تعظيم الصلاة؛ تأكّدَ التزينُ لها بالملبس والتطيب وغيرهما قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وعلى هذا الطريق سار صالح الأمة صغارُهم وكبارُهم، فلا ترى في سيرهم إلا كل حسن وجميل، وقد استمر هذا الأمر حتى خفت بعض العقول، وتأثرت بعض النفوس بقبيح المنقول مما قد يُشاهد ويسمع، فغلب الجهل، وقلّ الفهم، ونُسي البعض حقيقةَ الأمر، فتجد من الصغار من تأثر بالكبار فجاء إلى المسجد على أسوء حال في هيئته، ورائحته، متأثراً بمن حوله كأبيه وأخيه في عدم الاهتمام بشأن الصلاة والمصلين، فإلى هؤلاء الفئة نسوق جانباً من آداب صالحِ الأمة وفْق هدي المصطفى  معتبرين بحالهم، حتى يعلو شأنُ المسجد في النفوس، ويعظم أمر الصلاة في القلوب، وترتقي جماعة المصلين إلى معالي الأمور فمن ذلك: أولاً: أن التجمل من محبوبات الله  فعن جابر بن عبد الله  قال: قال رسول الله : إن الله جميل يحب الجمال (رواه مسلم)، وآكد الجمال ما كان عند مناجاة الله .

ثانيا: التبذل ورثاثة الملبس ليست من الإسلام فقد رأى الرسول  رجلاً عليه ثياب وسخة فقال: أما كان هذا يجد ما يغسل به ثوبه؟ (رواه أبو داوود وصححه الألباني) لأن وسخ الثوب، وكريه الرائحة؛ ينفر الناس عنه، فمن كان على هذه الحال فقد آذى المصلين، ونفّرهم عنه، فهل يعي أصحاب المهن، وأهل الثياب الرثة؛ هذا الأدب الرفيع؟

ثالثا: اختيار أحسن الثياب لصلاة الجمعة والعيدين: ففي الحديث :من اغتسل يوم الجمعة، ومس من طيبٍ إن كان له، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج وعليه السكينةُ حتى يأتي المسجد، ثم يركع ما بدا له، ولم يؤذ أحداً، ثم أنصت إذا خرج إمامَه حتى يصلي؛ كانت كفارة لما بينهما(رواه أحمد، وصححه الألباني)، ولقصة عمر  عندما عرض على الرسول  حُلّة من حرير ليتجمل بها للجمعة، ويستقبل بها الوفود، وهكذا يحرص الإسلام على انتشال المرء من كل ما يشينه، فيضفي عليه ما يزينه، ويحببه إلى الآخرين زارعاً المحبة والألفة بين أبناء المجتمع الإسلامي، وقد كان عبد الله بن عمر  من أطيب الناس ريحاً، وأنقاهم ثوباً، هذه حال ابن عمر وكثير من الصحابة في مساجدهم وعند صلاتهم، وكان تميم الداري قد اشترى حُلة بألف درهم ليصلي بها، ممتثلاً قوله تعالى : خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ قال أبو العالية : “كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا”، فإذا كانت هذه حالهم عند التزاور فيما بينهم فهم عند الصلاة أجمل وأبلغ لعظم حق الله، وقال الشافعي – رحمه الله -: “أُحِّب ــ الغسلَ، والطيبَ، والنظافةَ ــ للجمعة والعيدين، وكلَّ مجتَمعٍ تجتمع فيه الناس” فهل هناك أعظم من الإجتماع للصلاة؟ حيث إجابة نداء الحق، ويُروى أن الإمام أحمد – رحمه الله – من أنقى الناس ثوباً، وأشدهم تعاهداً لنفسه وثوبه، وسئل إبراهيم النخعي رحمه الله: ما ألبس من الثياب؟، فقال ” ما لا يُشهرك عند الناس، ولا يُحقرك عند السفهاء”.

أيها الأحبة: إن من دخل المسجد بلباس نومه، أو بلباس صنعته؛ هل ترى سيَلقى الاحترامَ والتوقير، بل أنه عرَّض نفسه للنبز والاغتياب، فرحم الله امرءاً كفّ نفسه عن الاغتياب، وأخيراً.. أسوق لكم حال الإمام مالك عند جلوسه لدرس الحديث وهي حال كثير من العلماء – رحمهم الله تعالى -: “كان رحمه الله يتهيأ ويلبس ثيابه، وتاجه، وعمامته ثم يُطرِق برأسه فلا يتنخم، ولا يبزق، ولا يعبث بشيء من لحيته حتى يفرغ من القراءة إعظاماً لحديث رسول الله ” هذه حاله مع حديث الرسول  فكيف حاله عند قرائته للقرآن؟ وكيف عند وقوفه بين يدي الرحمن في الصلاة والقيام؟

أخي المسلم.. بعد هذا كله أظنك قد عرفت شأن المسجد، وأهميةَ الصلاة عند أولئك الأفذاذ، فهل لنا أن نقتفي أثرهم، ونترسم خطاهم لغرس شأن المساجد والصلاة في نفوس أبنائنا؟ أم نترك الحبل على الغارب لأبنائنا، فتقَّلبهمُ المؤثرات، وتعصفُ بهم التيارات المختلفة؟ مما يجعلهم في عزلةٍ عن مبادئهم، وأخلاقهم، وآدابهم فيكونوا عبئا على أمتهم ومجتمعهم.

الوقفة السادسة والأخيرة:

مع أهل النفوس السليمة، والعقول المستقيمة؛ إن إحياء أهمية الصلاة، ومكانةَ المسجد لدى الناس مسئوليةُ الجميع، لا يمكن أن تُغرس في النفوس إلا بتظافر جهود المخلصين من مربين ومعلمين، ودعاة ومحتسبين، ويأتي هذا عبر الكلمة الصادقة، والتوجيه السديد، والقصة المؤثرة، أما الحوافز المادية مع الصغار فهي ذات أثر عجيب،وصدق من قال:

وينشأ ناشئ الفتيان منــــــا على ما كان عوده أبــوه
والنفس كالطفل إن تتركه شب على  حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

واللهَ أسأل أن يهدينا إلى أحسن الأخلاق والأعمال، وأن يجنبنا سيئها، إنه أهل الجود والإكرام، وصلى الله وسلم على نبينا وآله وصحبه أجمعين.