عدة المتوفى عنها زوجها

عدة المتوفى عنها زوجها

عدة المتوفى عنها زوجها

الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد بين الله ماذا يجب على المرأة المتوفى عنها زوجها، من العدة والإحداد، وما إلى ذلك من الأحكام؛ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} سورة البقرة(234).

 

مدة عدة المتوفى عنها زوجها:

بين الله في هذه الآية عدة المتوفى عنها؛ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} ظاهر هذه الآية الكريمة أن كل متوفى عنها تعتد بأربعة أشهر وعشر.

وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع، ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة، وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها فترددوا إليه مرارا في ذلك فقال: أقول فيها برأيي فإن يك صواباً فمن الله وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه: لها الصداق كاملا، وفي لفظ: لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث، فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى به في بروع بنت واشق ففرح عبد الله بذلك فرحا شديدا. وفي رواية: فقام رجال من أشجع فقالوا: نشهد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى به في بروع بنت واشق..

ولكنه بين في موضع آخر أن محل ذلك ما لم تكن حاملاً، فإن كانت حاملاً كانت عدتها وضع حملها، وذلك في قوله: {وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} سورة الطلاق (4) ويزيده إيضاحاً ما ثبت في الحديث المتفق عليه من إذن النَّبي -صلى الله عليه – لسبيعة الأسلمية في الزواج بوضع حملها بعد وفاة زوجها بأيام، وكون عدة الحامل المتوفى عنها بوضع حملها هو الحق؛ كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم خلافاً لمن قال: تعتد بأقصى الأجلين..

وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أَمَة فإن عدتها على النصف من عدة الحرة شهران وخمس ليال على قول الجمهور؛ لأنها لما كانت على النصف من الحرة في الحد فكذلك فلتكن على النصف منها في العدة.

ومن العلماء كمحمد بن سيرين وبعض الظاهرية من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام لعموم الآية ولأن العدة من باب الأمور الجبلية التي تستوي فيها الخليقة، وقد ذكر سعيد بن المسيب وأبو العالية وغيرهما أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا لاحتمال اشتمال الرحم على حمل، فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجودا كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح) فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه -والله أعلم-. قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: سألت سعيد بن المسيب: ما بال العشر؟ قال: فيه ينفخ الروح. وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية: لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة؟ قال: لأنه ينفخ فيه الروح. رواهما ابن جرير.

وقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} بضم الياء-أي يتوفاهم الله-؛ وذلك بقبض أرواحهم عند الموت؛ وقد أضاف الله التوفي إليه تارة؛ كما في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} سورة الزمر(42)؛ وإلى ملك الموت تارة، كما في قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} سورة السجدة(11)؛ وإلى رسله -وهم الملائكة- تارة؛ كما في قوله تعالى: {حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} سورة الأنعام(61). فإضافتها إلى الله؛ لأنها بأمره؛ وإلى ملك الموت؛ لأنه الذي يقبض الروح؛ وإلى الرسل؛ لأنهم يقبضونها من ملك الموت يصعدون بها إلى السماء؛ ولذلك بني الفعل في الآية لما لم يسم فاعله؛ ليشمل كل ذلك.

وقوله تعالى: {منكم} الخطاب للناس جميعاً؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} سورة النساء(174)؛ فالخطابات بصيغة الجمع لجميع من نزل إليهم القرآن.

وقوله تعالى: {ويذرون أزواجاً} أي يتركون أزواجاً بعدهم؛ و{أزواجاً} جمع زوج -وهو من عقد له النكاح من رجل، أو امرأة-؛ إلا أن الفرضيين -رحمهم الله- اصطلحوا على أن الرجل يقال له: زوج؛ والمرأة يقال لها زوجة من أجل التمييز بينهما في قسمة الميراث.

وقوله تعالى: {يتربصن بأنفسهن} أي ينتظرن، ويَحبسن أنفسهن عن الزواج؛ لأن المرأة بطبيعتها تطلب النكاح؛ فقيل لها: تربصي بنفسك؛ انتظري، مثلما أقول: ارفق بنفسك -أي هوِّن على نفسك-؛ وما أشبهها.

قوله تعالى: {أربعة أشهر وعشراً} أي وعشر ليال؛ والمراد: عشرة أيام لكن يعبر عن الأيام بالليالي؛ كقوله تعالى: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} سورة طـه (103)(104). فتبين أن المراد بـ "العشر" هنا الأيام؛ وهنا قوله تعالى: {وعشراً} يعني عشرة أيام؛ ولكن قال أهل اللغة: إن العرب يعبرون بالليالي عن الأيام؛ لأنها قبلها.

ما يجب على المعتدة من الوفاة في مدة الإحداد:

يجب على المعتدة من الوفاة في مدة الإحداد أن تجتنب عمل الزينة في بدنها بالتحسين بالأصباغ والخضاب ونحوه، وتتجنب لبس الحلي بأنواعه، وتتجنب الطيب بسائر أنواعه، وهو كل ما يسمى طيبا، وتجتنب الزينة في الثياب ; فلا تلبس الثياب التي فيها زينة ، وتقتصر على الثياب التي لا زينة فيها ; فتجتنب كل ذلك مدة العدة.

وليس للإحداد لباس خاص، فتلبس المحدة ما جرت عادتا بلبسه، ما لم يكن فيه زينة.

وإذا خرجت من العدة لم يلزمها أن تفعل شيئا أو تقول شيئا; كما يظنه بعض العوام.

الحكمة في مشروعية الإحداد:

إن الله يشرع الشرائع والأحكام لحكم عدة، ومن ذلك ما بينه العلامة ابن القيم -رحمه الله- فيقول: "هذا من تمام محاسن هذه الشريعة وحكمتها ورعايتها على أكمل الوجوه، فإن الإحداد على الميت من تعظيم مصيبة الموت التي كان أهل الجاهلية يبالغون فيها أعظم مبالغة، وتمكث المرأة في أضيق بيت وأوحشه، لا تمس طيبا، ولا تدهن، ولا تغتسل … إلى غير ذلك مما هو تسخط على الرب وأقداره، فأبطل الله بحكمه سنة الجاهلية، وأبدلنا به الصبر والحمد. ولما كانت مصيبة الموت لابد أن تحدث للمصاب من الجزع والألم والحزن ما تتقاضاه الطباع; سمح لها الحكيم الخبير في اليسير من ذلك "يعني: لغير الزوجة، وهو ثلاثة أيام"; تجد بها نوع راحة، وتقضي بها وطرا من الحزن.. وما زاد على الثلاث فمفسدته راجحة، فمنع منه.. والمقصود أنه أباح لهن الإحداد على موتاهن ثلاثة أيام، وأما الإحداد على الزوج ; فإنه تابع للعدة وهو من مقتضياتها ومكملاتها، وهي إنما تحتاج إلى التزين لتتحبب إلى زوجها، فإذا مات وهي لم تصل إلى آخر; اقتضى تمام حق الأول وتأكيد المنع من الثاني قبل بلوغ الكتاب أجله: أن تمنع مما تصنعه النساء لأزواجهن; مع ما في ذلك من سد الذريعة إلى طمعها في الرجال وطمعهم فيها بالزينة والخضاب والتطيب"1.

ما يباح للمحادة بعد انتهاء المدة:

قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي انقضت عدتهن {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} أي من مراجعتها للزينة والطيب، {بِالْمَعْرُوفِ} أي على وجه غير محرم ولا مكروه.

قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي عالم بأعمالكم، ظاهرها وباطنها، جليلها وخفيها، فمجازيكم عليها.

بعض الفوائد المستفادة من الآية:

1.  وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها؛ لقوله: {يتربصن بأنفسهن}؛ لأنها خبر بمعنى الأمر. سواء كانت صغيرة، أم كبيرة؛ لقوله: {أزواجاً}، وأطلق؛ فأما الكبيرة فتقوم بما يلزمها من الإحداد؛ وأما الصغيرة فالمخاطب بذلك وليها يجنبها ما تتجنبه المحادة الكبيرة. وسواء دخل بها، أم لم يدخل؛ لقوله تعالى: {أزواجاً}؛ لأن الزوجة تكون زوجة بمجرد العقد بخلاف الطلاق؛ فإن الطلاق قبل الدخول، والخلوة لا عدة فيه؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} سورة الأحزاب(49).

2.     وجوب انتظار المرأة بنفسها مدة العدة بحيث لا تتزوج، ولا تتعرض للزواج؛ لقوله: {يتربصن بأنفسهن}؛ يعني ينتظرن.

3.     أن السرية لا تلزمها عدة الوفاة؛ لأنها ليست بزوجة.

4.  أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام سواء كانت تحيض، أو لا تحيض؛ ويستثنى من ذلك الحامل؛ فعدتها إلى وضع الحمل؛ لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} سورة الطلاق(4)؛ ولا عدة للمتوفى عنها زوجها سوى هاتين: أربعة أشهر وعشراً، أو وضع الحمل.

5.     أن العدة إذا انتهت جاز للمرأة أن تفعل كل ما كان معروفاً من تجمل، وخروج من البيت، وغير ذلك؛ لقوله: {فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم}.

6.     أن الأولياء مسؤولون عن مولياتهم؛ لقوله تعالى: {فلا جناح عليكم} إشارة إلى أن الرجال لهم ولاية على النساء؛ فيكونون مسؤولين عنهن.

7.  اعتبار العرف؛ لقوله تعالى: {بالمعروف}؛ والعرف معتبر إذا لم يخالف الشرع؛ فإن خالف الشرع فلا يعتبر 2. والله أعلم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 


1 إعلام الموقعين عن رب العالمين(2/165- 167).  الناشر: دار الجيل – بيروت (1973هـ).

2 راجع: تفسير القرآن العظيم (1/382) لابن كثير. والجامع لأحكام القرآن(3/165) للقرطبي. ومعالم التنزيل(279) للبغوي. وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، صـ(104).لابن سعدي. وأضواء البيان (1 /176) وتفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث. والملخص الفقهي، المجلد الثاني. للفوزان.