غزوة وادي القرى

غزوة وادي القرى1

غزوة وادي القرى1

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد عزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على تطهير بلاد الإسلام من اليهود، لا سيما من كان منهم مجاوراً للمدينة أو محيطاً بها، وقد وقعت بينه وبينهم جولات وصولات، في بني قينقاع وبني قريظة، وخيبر، أجلاهم من بني قينقاع بعد أن أخربوا بيوتهم بأيديهم، وقتلهم في بني قريظة، وسلبهم في خيبر وزارعهم على أرضها، ولم يكن ذلك كله إلا مجازاة لغدرهم به، ونقضهم للعهد الذي بينهم وبينه بمظاهرة أعدائه عليه، واعتدائهم على المسلمين، وانتهاكهم حرمات الإسلام، فكان ذلك جزاؤهم جزاءً وفاقاً.

لما انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خيبر تحول إلى وادي القرى يدعو أهله إلى الإسلام، وهاهنا ندع الحديث لشاهد عيان كان في نفس الوقعة، مصاحباً جيش رسول الله صلى الله عيه وسلم، لم يبارح النبي -عليه الصلاة والسلام- منذ عرفه إنه أَبو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كان يقولُ: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى وَادِي الْقُرَى، وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ. أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا)، فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ)2.

وعبَّأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه للقتال، وصفَّهم ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة -رضي الله عنه-، ورايةً إلى الحباب بن المنذر -رضي الله عنه-، ورايةً إلى سهل بن حُنَيْف -رضي الله عنه-، ورايةً إلى عبَّاد ابن بشر -رضي الله عنه-، ثم دعاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام، وأخبرهم أنهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم، وحقنوا دماءهم، وحسابهم على الله تعالى.

فبرز رجل منهم، فبرز له الزبير بن العوام -رضي الله عنه- فقتله، ثم برز آخر، فبرز له الزبير فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقتله، ثم برز آخر، فبرز إليه أبو دجانة -رضي الله عنه- فقتله، ثم برز آخر فبرز له أبو دجانة فقتله، حتى قتل منهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد عشر رجلاً كلما قُتل رجلٌ دعا من بقي إلى الإسلام، ولقد كانت الصلاة تحضر يومئذ فيصلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه، ثم يعود فيدعوهم إلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أمسوا، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس حتى أعطوا ما بأيديهم3.

وفتحها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنوة، وغنَّمه الله أموالهم، وأصابوا أثاثاً ومتاعاً كثيراً، وأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوادي القرى أربعة أيام، وقسم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى، وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود، وعاملهم عليه4.

ثم رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المسلمين إلى المدينة، بعد انتصارات عظيمة، أخضع خلالها معشر يهود، وكسر شوكتهم، وأذلهم بأسره إياهم، وأخذ أموالهم وتملكها للمسلمين، وفي الغزوة إبانة وتوضيح للحال التي ينبغي أن يكون عليها اليهود إن عاشوا في بلاد المسلمين، ويكون هذا هو المشروع في حقهم في سائر بلاد الإسلام عدا جزيرة العرب فقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يُخْرَجوا منها، وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين أخرج يهود خيبر وفدك إلى ما وراء الشام.

قال الواقدي: فلما كان زمن عمر -رضي الله عنه- أخرج يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى، لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز وأن ما وراء ذلك من الشام5.

وقد تقدم أن هذه الغزوة كانت بعد غزوة خيبر، ولهذا أحدث فتح خيبر وفدك ووادي القرى وتيماء دويًّا هائلاً في الجزيرة العربية بين مختلف القبائل، وقد أصيبت قريش بالغيظ والكآبة إذ لم تكن تتوقع ذلك، وهي تعلم مدى حصانة قلاع يهود خيبر، وكثرة مقاتليهم ووفرة سلاحهم ومؤونتهم ومتاعهم، أما القبائل العربية الأخرى المناصرة لقريش فقد أدهشها خبر هزيمة يهود خيبر ووادي القرى، وخذلها انتصار المسلمين الساحق؛ ولذلك فإنها جنحت إلى مسالمة المسلمين وموادعتهم بعد أن أدركت عدم جدوى استمرارها في عدائهم، مما فتح الباب واسعًا لنشر الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية، بعد أن تعززت مكانة المسلمين في أعين أعدائهم إلى جانب ما تحقق له من خير وتعزيز لوضعهم الاقتصادي6.

فوائد من الغزوة:

مما يستفاد من هذه الغزوة عدة أمور، أهمها:

·        تحريم الغلول من الغنائم قبل أن تقسم، وبيان أن من مات وهو غالٌّ عذب به في النار.

·        مشروعية المساقاة والمزارعة بجزء مما يخرج من الأرض من تمر أو زرع، كما عامل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل وادي القرى على أرضهم.

·        جواز أن يكون البذر من غير المالك، وتكون من العامل؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عاقد اليهود على أن يعملوا في الأرض، ويعملوها من مالهم.

·        جواز إجلاء أهل الذمة من دار الإسلام إذا استغنى عنهم الإمام، كما فعل عمر -رضي الله عنه- باليهود حين أخرجهم من الجزيرة إلى وراء الشام.

·        الحرص على الدعوة إلى الإسلام، وعدم اليأس من استجابة المدعوين، والاستمرار فيها في كل حين، فالمتأمل لصنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أهل وادي القرى يجد الحكمة والرحمة معاً حين كان يدعوهم إلى الإسلام بعد كل صلاة، وبعد كل قتيل.

·        تقسيم الغنائم أمر متعلق بالإمام يقسمه على المقاتلين بحسب ما يراه عادلاً.

·        جواز الحكم بالظاهر، فالصحابة -رضي الله عنهم- لما رأوا السهم قتل مدعماً حكموا له بالشهادة لمجرد ظاهر الأمر، ثم بعد ذلك بين النبي -صلى الله عليه وسلم- بما علم من باطنه.

·        الدين الإسلامي ظاهر على ما سواه من الأديان، ولو كان موسى -عليه الصلاة والسلام- حياً ما وسعه إلا اتباع محمد -عليه الصلاة والسلام-، ولهذا فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاهد اليهود وقاتلهم.

·        أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا قالوها عصموا دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله، وقد أخبرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وأنهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم، وحقنوا دماءهم، وحسابهم على الله -عز وجل-.

·        جواز الحلف على شيء يكون الإنسان فيه عالماً بمآله، وعالماً بصدقه، ولا كراهة في مثل هذا الموضع، فقد حلف النبي -صلى الله عليه وسلم- ليؤكد للناس ما يقع من عذاب الغالِّ.

·        الشريعة المطهرة تهدف إلى إيجاد بلد مسلم خالٍ من الشوائب البدعية والكفرية والشركية، فلذلك أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإخراج اليهود من جزيرة العرب؛ لأن وجودهم فيها ضرر على المسلمين في دينهم ودنياهم.


 


1 وادٍ بين المدينة والشام، من أعمال المدينة كثير القرى انظر: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: (5/172).

2 صحيح البخاري: (3908).

3 سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: (5/149).

4 زاد المعاد لابن القيم: (3/313).

5 مغازي الواقدي: (1/711).

6 السيرة النبوية للصلابي: (713).