بيع الفضولي

بـيع الفضـولي

الحمد لله الذي فقه من أراد به خيراً في الدين، وشرع أحكام الحلال والحرام في كتابه المبين، وأعز العلم ورفع أهله العاملين به المتقين، أحمده حمدًا يفوق حمد الحامدين، وأشكره على نعمه التي لا تحصى وإياه أستعين، وأستغفره وأتوب إليه إن الله يحب التوابين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي مهد قواعد الشرع، وبينها أحسن تبيين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً، أما بعد: فإن من شروط المبيع في البيع: أن يكون المتصرَّف فيه مملوكاً للعاقد، أو مأذوناً فيه من جهة المالك، فإن وقع البيع أو الشراء قبل إذنه؛ فإن هذا يعتبر من تصرفات الفضولي. تعريف الفضولي:

والفضولي في الأصل: من يشتغل بما لا يعنيه، أو يعمل عملاً ليس من شأنه، ومنه سمي فضولياً: من يتصرف في شيء، أو يعقد عقداً من العقود؛ دون أن يكون له ولاية ما على القيام به كمن يبيع أو يشتري، أو يؤجر أو يستأجر لغيره، دون وكالة، أو وصاية، أو ولاية على العقد، وبدون إذن من الغير.

وبيع الإنسان ملك غيره دون إذن منه شائع في الحياة العملية كما في بيع الأزواج ملك زوجاتهم، أو بيع الأفراد ملك الحكومات، أو ملك من تغيب حتى طالت غيبته. ويلاحظ أن الفضولي: هو من يتصرف فيما تظهر ملكية غيره له، وإلا كان تصرفه من بيع ما لا يملك، وهو منهي عنه.

وبما أن الفضولي: هو المتصرف للغير بغير إذنه فقد اختلف الفقهاء في حكم تصرفه على أقوال نجملها في خمسة:

فأما الأحناف: فقد فرقوا بين البيع والشراء:

ففي حالة البيع: ينعقد تصرف الفضولي صحيحاً موقوفاً، سواء أضاف الفضولي العقد إلى نفسه، أم إلى المالك؛ لأنه لا يمكن نفاذ العقد على العاقد.

وفي حالة الشراء: إن أضاف الفضولي الشراء لنفسه مع أنه يريد في نيته الشراء لغيره كان الشراء له هو نفسه إن صح أن ينفذ عليه؛ لأن الأصل أن يكون تصرف الإنسان لنفسه لا لغيره.

وإن أضاف الشراء لغيره، أو لم يجد عقد الشراء نفاذاً على الفضولي بأن كان صبياً، أو محجوراً عن التصرف؛ انعقد الشراء صحيحاً موقوفاً على إجازة الغير، أو من اشتري له؛ فإن أجازه نفذ عليه، واعتبر الفضولي وكيلاً ترجع إليه حقوق العقد.

وفي الجملة: إن تصرفات الفضولي جائزة موقوفة على إجازة صاحب الشأن عند الحنفية، وتصرفات الفضولي مثل: بيع المسلَم فيه، والمغصوب، وبيع الوكيل؛ هي من الحالات المستثناة من البيع مما ليس مملوكاً للإنسان.1

وأما المالكية: فقد أجازوه في الوجهين – في البيع والشراء – وحجتهم في ذلك ما روي عن النبي  عن عروة بن أبي الجعد البارقي قال: عرض للنبي  جلب، فأعطاني ديناراً وقال: أي عروة ائت الجلب، فاشتر لنا شاة فأتيت الجلب فساومت صاحبه، فاشتريت منه شاتين بدينار، فجئت أسوقهما – أو قال: أقودهما -، فلقينى رجل فساومني فأبيعه شاة بدينار، فجئت بالدينار، وجئت بالشاة فقلت: يا رسول الله هذا ديناركم، وهذه شاتكم، قال: وصنعت كيف؟ قال: فحدثته الحديث، فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه …2.

ففي الحديث: أن عروة اشترى الشاة الثانية، وباعها دون إذن مالكها وهو النبي ، فلما رجع إليه وأخبره أقره، ودعا له، فدل ذلك على صحة شراء الشاة الثانية وبيعها.

وهذا دليل على صحة بيع الإنسان ملك غيره، وشرائه له دون إذن. وإنما يتوقف على الإذن مخافة أن يلحقه من هذا التصرف ضرر.3

وإلى جانب ذلك استدل الحنفية والمالكية بآيات البيع التي وردت عامة لم يستثن منها كون العاقد فضولياً مثل قوله تعالى : وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ (275) سورة البقرة، وقوله سبحانه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ (29) سورة النساء، وقوله: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ (10) سورة الجمعة. والفضولي كامل الأهلية، فإعمال عقده أولى من إهماله، وربما كان في العقد مصلحة للمالك، وليس فيه أي ضرر بأحد؛ لأن المالك له ألا يجيز العقد إن لم يجد فيه فائدته.4

قال الصنعاني: وفي حديث عروة دلالة على أن عروة شرى ما لم يوكل بشرائه، وباع كذلك؛ لأنه أعطاه ديناراً لشراء أضحية، فلو وقف على الأمر لشرى ببعض الدينار الأضحية، ورد البعض، وهذا الذي فعله هو الذي تسميه الفقهاء العقد الموقوف الذي ينفذ بالإجازة…، وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف والهادوية عملاً بالحديث. وقال الحنابلة: لا يصح تصرف فضولي مطلقاً أي ببيع أو شراء أو غيرهما، ولو أجيز تصرفه بعد وقوعه إلا إن اشترى الفضولي في ذمته، ونوى الشراء لشخص لم يسمه؛ فيصح، أو اشترى بنقد حاضر ونوى لشخص لم يسمه؛ فيصح، ثم إن أجاز الشراء من اشتري له، وملكه من حين الشراء، وإن لم يجزه وقع الشراء للمشتري، ولزمه حكمه، وقال ابن رجب: تصرف الفضولي جائز موقوف على الإجازة إذا دعت الحاجة إلى التصرف في مال الغير أو حقه، وتعذر استئذانه إما للجهل بعينه، أو لغيبته ومشقة انتظاره.

وأما الشافعية: فقد منعه الإمام الشافعي، وحكم عليه بعدم الصحة، وقال: إن الإجازة لا تصححه، محتج بحديث حكيم بن حزام قال: أتيت رسول الله  فقلت: يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي أبتاع له من السوق ثم أبيعه، قال: لا تبع ما ليس عندك.5

وهو شامل للمعدوم وملك الغير، وتردد الشافعي في صحة حديث عروة، وعلق القول به على صحته.6

وحملوا حديث عروة على أنه وكيل مطلق، بدليل أنه سلم وتسلم، وليس ذلك لغير المالك والوكيل المطلق باتفاق.7

شروط إجازة تصرف الفضولي:

اشترط الحنفية لإجازة عقد الفضولي شروطاً:

1- أن يكون للعقد مجيز حالة العقد: أي من كان يستطيع إصدار العقد بنفسه؛ لأن ماله مجيز متصور منه الإذن بإتمام العقد للحال، وبعد صدور التصرف، وأما ما لا مجيز له فلا يتصور منه الإذن للحال، والإذن في المستقبل قد يحدث وقد لا يحدث.

2- أن تكون الإجازة حين وجود البائع، والمشتري، والمالك، والمبيع، فلو حصلت الإجازة بعد هلاك أحد هؤلاء، بطل العقد، ولم تفد الإجازة شيئاً؛ لأن الإجازة تصرف في العقد، فلا بد من قيام العاقدين، والمعقود عليه.

3- ألا يمكن تنفيذ العقد على الفضولي عند رفض صاحب الشأن على ما تبين سابقاً.8

فسخ عقد الفضولي:

فسخ العقد الصادر من الفضولي كبيع مثلاً: قد يكون من صاحب الشأن المالك للمبيع كما هو واضح، وقد يكون من الفضولي البائع قبل إجازة المالك، حتى يدفع عن نفسه الحقوق التي تلزمه لو أجاز المالك، وقد يكون من المشتري ليدفع عن نفسه ما قد يلحقه من ضرر بشرائه من غير صاحب الشأن.

أما في عقد الزواج: فليس للفضولي فسخه؛ لأنه عقد ترجع فيها الحقوق إلى الأصيل صاحب الشأن.9

هل للفضولي الواحد أن يعقد العقد عن الطرفين؟

إذا باع الفضولي دار إنسان مثلاً وهما غائبان، وقبل عن المشتري، أو زوج إنساناً من امرأة؛ وقبل عنهما، فلا ينعقد العقد؛ لأن تعدد العاقد شرط في انعقاد العقد، فلا يتوقف الإيجاب على قبول غائب عن المجلس في سائر العقود من نكاح وبيع وغيرهما، بل يبطل الإيجاب، ولا تلحقه الإجازة اتفاقاً.10

بعض الفوائد من حديث عروة:

قال ابن الأمير الصنعاني -رحمه الله-: وفيه دليل على صحة بيع الأضحية وإن تعينت بالشراء لإبدال المثل، ولا تطيب زيادة الثمن، ولذا أمره بالتصدق بها.

والثانية: في دعائه  له بالبركة دليل على أن شكر الصنيع لمن فعل المعروف ومكافأته مستحبة ولو بالدعاء.11

هذا بعض ما يتعلق ببيع الفضولي من أحكام ومسائل، والله الهادي والموفق.


1 الفقه الإسلامي وأدلته-د/ وهبة الزحيلي، دار الفكر- ط4، 1425هـ (5/3339-3340).

2 رواه أحمد برقم (19381) بهذا اللفظ، وأصله في البخاري برقم (3443).

3 فقه السنة، للسيد سابق- دار الفكر للنشر والتوزيع – بيروت – لبنان: ط2-1419هـ-1998م: (3/96).

4 الفقه الإسلامي وأدلته، (5/3341).

5 أخرجه أبو داود (3040) والترمذي (1153) والنسائي (4534) وصححه الألباني، إرواء الغليل (1292).

6 سبل السلام – لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني: (4/144).

7 كشاف القناع عن متن الإقناع – (8/443).

8 الفقه الإسلامي وأدلته، (5/3342- 3343) ملخصاً.

9 المصدر السابق (5/3344).

10 الفقه الإسلامي وأدلته، (5/3344).

11 سبل السلام (4/145).