حظوظ النفس

حظوظ النفس

 

حظوظ النفس

 

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

كتب على الإنسان أن يحب ويتمنى، ويشتهي، ويسعى في تحقيق مصالحه الخاصة، غير أنه قد تبرز في نفسه دوافع حرصٍ على حصول بعضٍ من المدح والثناء، أو ما فيه عائد على نفسه وربح، وهذا لا شيء فيه، إلا أن يغلب على النفس هواها، ويسيطر عليها حبها لذاتها الحب الذي يجعل حاجتها ورغبتها أعظم وأهم مما سواها، فهاهنا يمكن القول أن حظ النفس ليس هو الأولى دائماً، فهناك ما هو أولى منه وأقدم ألا وهو حق الله، فإذا تعارض حق لله مع حق للنفس فلابد من إيثار حق الله على حق النفس، هذا أمر، والأمر الآخر أنه لابد من موازنة بين إشباع رغبات النفس وحاجاتها وبين قضاء ما النفس موكلة به تجاه غيرها.

 

إن النفس في هذه الحال قد تحب لنفسها شيئاً من الثناء الجميل، والذكر الحسن، فتقوم بتزيين ظاهرها، ومظاهرها، وصفاتها ومعاملتها، وتقدم على ما تهواه، فتختار الملبس الحسن والمظهر الحسن، والمركوب الحسن، وقد تؤدي هذه الأمور إلى التباهي والتفاخر، والشعور بالتميز على الآخرين، لا سيما إن ردف ذلك قول حسن وعمل حسن، ونوع من الذكاء والقدرات الذاتية، وإجادة ما لا يجيده الغير.

 

صحيح أننا مطالبون شرعاً بالرقي والتميز في شتى مناحي الحياة، وتحسين الشكل والمظهر، لكن أهم من ذلك تجويد الباطن أولاً، ولا غبار على من سعى في استكمال تلك الخصال، إنما يكون الأمر مذموما إذا صاحبه شيء من الرياء والعجب والغرور (فليس كل ما تهواه النفس يُذمُّ، ولا كل التزين للناس يكره، وإنما ينهى عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه، أو كان على وجه الرياء في باب الدين، فإن الإنسان يجب أن يرى جميلاً وذلك حظ النفس، ولا يلام فيه، ولهذا يُسَرِّحُ شعره وينظر في المرآة ويسوي عمامته ويلبس بطانة الثوب الخشن إلى داخل وظهارته الحسنة إلى خارج، وليس في شيء من هذا ما يكره ولا يذم)1.

 

وأما المطلوب من النفس فهو التفتيش عما يشوبها من حظوظ النفس وتمييز حق الرب منها – من حظ النفس – ولعل أكثرها أو كلها أن تكون حظاً لنفسك وأنت لا تشعر، فلا إله إلا الله كم في النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة وأن تصل إليه! وإن العبد ليعمل العمل حيث لا يراه بشر البتة وهو غير خالص لله، ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه نطاقا وهو خالص لوجه الله، ولا يميز هذا إلا ذوي العقل والتفكر والمحاسبة الدائمة، فبين العمل وبين القلب مسافة وفي تلك المسافة أمور تمنع وصول العمل إلى القلب، فقد يكون الرجل كثير العمل وما وصل منه إلى قلبه محبة ولا خوف ولا رجاء ولا زهد في الدنيا ولا رغبة في الآخرة ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه وبين الحق والباطل، ولا قوة في أمره، فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق، ورأى الحق والباطل وميز بين أولياء الله وأعدائه.

 

ثم أن بين القلب وبين الرب مسافة وفيها أمور تمنع وصول العمل إليه من كبر وإعجاب وإدلال ورؤية العمل ونسيان المنة، وعلل خفية لو استقصى في طلبها لرأى العجب، ومن رحمة الله تعالى: سترها على أكثر العباد إذ لو رأوها وعاينوها لوقعوا فيما هو أشد منها من اليأس والقنوط والاستحسار وترك العمل وخمود العزم وفتور الهمة … والحاذق يعلم كيف يطب النفوس فلا يعمر قصرًا ويهدم مصرً2.

 

إن الإنسان له نفس أمارة بالسوء، ونوازعها خفية وظاهرة في نفس الوقت، والعاقل من أخذ بلبه في طاعة الله، وجرد نفسه من هواها، وارتدى رداء حب الله، وتدثر بدثار الإيثار، وعاش رافلاً في أثواب الخير المتعدية للغير، الخالصة لله –جل وعلا – بعيداً عن حظ النفس، ومحبَّبَات القلب.

نسأل الله العظيم أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يسدد خطانا، ويجعلنا من عباده المخلصين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.


 


1 – تلبيس إبليس: (1/248).

2 – مدارج السالكين: (1/439)بتصرف يسير.