حكم إهداء الهدية للكافر

حكم إهداء الهدية للكافر

 

حكم إهداء الهدية للكافر

 

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وجعل أمة الإسلام خير أمة، وبعث فينا رسولاً منا يتلو علينا آيات الله ويزكينا، ويعلمنا الكتاب والحكمة، والصلاة والسلام على من أرسله الله للعالمين رحمة، نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه..أما بعد:

فإنه يجب على المسلم أن يتبع أوامر الله ورسوله، في جميع شؤونه، ولا يجوز له العدول عنها إلى ما تشتهيه نفسه ويوسوس له شيطانه، وإن من الأمور التي يجب الانقياد لها ما أمر الله به عباده من عداوة الكافرين والبراءة منهم، وعدم محبتهم أو اتخاذهم أصحاباً وأصدقاء، فإن القرين بالمقارن يقتدي، يقول تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ(22) سورة المجادلة، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ(1) سورة الممتحنة، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ(118) سورة آل عمران، وقال -عز وجل- : وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ(113) سورة هود، وقال :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء(51) سورة المائدة. إلى غير ذلك من الأدلة التي تدل على تحريم مصادقة الكافر أو مودته. بل أمر الله بالبراءة منهم، كما قال -عز وجل-: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ(4) سورة الممتحنة.

لكن هناك مسألة ذكرها العلماء وهي إهداء الهدية للكافر من غير مودة له ولا موافقة لما هو عليه من الكفر والضلال، بل لقصد هدايته وحسن التعامل معه، مع اعتقاد بغض ما عليه من الكفر وشينه، فهذا جائز، كما جاء في صحيح البخاري ومسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: رأى عمر حلة على رجل تباع، فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "ابتع هذه الحلة تلبسها يوم الجمعة، وإذا جاءك الوفد" فقال: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة) فأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها بحلل، فأرسل إلى عمر منها بحلة، فقال عمر: "كيف ألبسها، وقد قلت فيها ما قلت؟ قال: (إني لم أكسكها لتلبسها، تبيعها، أو تكسوها) فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة، قبل أن يسلم"1.

فدل هذا الحديث على جواز أن يهدي المسلم للكافر والمشرك، بقصد تأليفه وترغيبه في الإسلام، لاسيما إذا كان هذا الكافر قريباً أو كان جاراً.

قال النووي: "وفي حديث عمر… جواز إهداء المسلم إلى المشرك ثوباً وغيره"2.

كذلك ما جاء عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: "قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستفتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت: وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: (نعم صلي أمك)3.

وفي هذه الأدلة وغيرها ما يفيد جواز الإهداء إلى المشرك والكافر، لكن بشروط وضوابط منها:

– ألا تكون هذه الهدية في يوم عيد من أعيادهم، أي لأجل العيد، لأن في ذلك إقراراً لهم ومشاركة في الاحتفال بعيدهم الباطل. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ومن أهدى للمسلمين هدية في هذه الأعياد مخالِفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته، خصوصاً إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم، مثل إهداء الشمع ونحوه في الميلاد، أو إهداء البيض واللبن والغنم في الخميس الصغير الذي في آخر صومهم، وكذلك أيضاً لا يهدى لأحد من المسلمين في هذه الأعياد هدية لأجل العيد، لا سيما إذا كان مما يستعان بها على التشبه بهم كما ذكرناه"4.

– ألا تكون هذه الهدية مما يستعان به على الاحتفال كالطعام والشموع ونحو ذلك.

قال الزيلعي في تبيين الحقائق: "والإعطاء باسم النيروز والمهرجان لا يجوز، أي الهدايا باسم هذين اليومين حرام بل كفر, وقال أبو حفص الكبير -رحمه الله-: لو أن رجلاً عبد الله خمسين سنة، ثم جاء يوم النيروز وأهدى لبعض المشركين بيضة، يريد به تعظيم ذلك اليوم، فقد كفر, وحبط عمله. وقال صاحب الجامع الأصغر: إذا أهدى يوم النيروز إلى مسلم آخر, ولم يرد به التعظيم لذلك اليوم, ولكن ما اعتاده بعض الناس لا يكفر, ولكن ينبغي له أن لا يفعل ذلك في ذلك اليوم خاصة, ويفعله قبله أو بعده، كي لا يكون تشبهاً بأولئك القوم, وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من تشبه بقوم فهو منهم)5 وقال في الجامع الأصغر: رجلٌ اشترى يوم النيروز شيئاً، لم يكن يشتريه قبل ذلك، إن أراد به تعظيم ذلك اليوم كما يعظمه المشركون كفر, وإن أراد الأكل والشرب والتنعم لا يكفر"6. وقال في التاج والإكليل: "وكره ابن القاسم أن يهدى للنصراني في عيده مكافأة له، ونحوه إعطاء اليهودي ورق النخيل لعيده"7.

بل لا يجوز للمسلم أن يهدي للمسلم هدية لأجل هذا العيد، كما سبق في كلام شيخ الإسلام.

أما قبول هدية الكافر في يوم عيده فلا حرج في ذلك، ولا يعد ذلك من المشاركة في أعيادهم ولا يعد إقراراً للاحتفال بعيدهم، بل تؤخذ على قصد البر والتأليف والدعوة إلى الإسلام، والله قد أباح البر والقسط مع الكفار الذين لم يقاتلوا المسلمين، فقال: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8) سورة الممتحنة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما قبول الهدية منهم يوم عيدهم فقد قدمنا عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه أتي بهدية النيروز فقبلها. وروى ابن أبي شيبة أن امرأة سألت عائشة قالت: إن لنا أظآراً -جمع ظئر، وهي المرضع- من المجوس، وإنه يكون لهم العيد فيهدون لنا. فقالت: أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا، ولكن كلوا من أشجارهم. وعن أبي برزة أنه كان له سكان مجوس فكانوا يهدون له في النيروز والمهرجان، فكان يقول لأهله: ما كان من فاكهة فكلوه، وما كان من غير ذلك فردوه.

فهذا كله يدل على أنه لا تأثير للعيد في المنع من قبول هديتهم، بل حكمها في العيد وغيره سواء؛ لأنه ليس في ذلك إعانة لهم على شعائر كفرهم"8.

ثم ذكر -رحمه الله- أن ذبيحة الكتابي وإن كانت حلالاً، إلا أن ما ذبحوه لأجل عيدهم لا يجوز أكله. قال -رحمه الله-: "وإنما يجوز أن يؤكل من طعام أهل الكتاب في عيدهم، بابتياعٍ أو هديةٍ أو غير ذلك مما لم يذبحوه للعيد. فأما ذبائح المجوس فالحكم فيها معلوم فإنها حرام عند العامة، وأما ما ذبحه أهل الكتاب لأعيادهم وما يتقربون بذبحه إلى غير الله نظير ما يذبح المسلمون هداياهم وضحاياهم متقربين بها إلى الله تعالى، وذلك مثل ما يذبحون للمسيح والزهرة، فعن أحمد فيها روايتان أشهرهما في نصوصه أنه لا يباح أكله وإن لم يسم عليه غير الله تعالى، ونقل النهي عن ذلك عن عائشة وعبد الله بن عمر…"9.

– ألا يتـرتب على قبول هديتهم أو إهدائها لهم نشوء مودة أو ميل القلب إليهم أو محبتهم. لقوله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ(22) سورة المجادلة.

– ألا تكون تلك الهدية مما يستعينون به على باطلهم من الشرك والكفر والمعاصي كإهداء الصلبان، أو إهداء آلات الطرب والغناء ونحوها.

وبهذا المعنى منع إهداء الكفار والمشركين في أعيادهم حتى لا تكون تشجيعاً لهم وإقراراً على باطلهم، فإن كان الإهداء لهم في يوم عيدهم تعظيماً لليوم فهو جد خطير.

قال أبو حفص الحنفي: "من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيماً لليوم فقد كفر بالله تعالى"10

– أن يغلب على الظن وجود مصلحة في الإهداء إلى الكفار أو قبول الهدية منهم كتأليف قلوبهم على الإسلام، وتحبيب الدين إلى أنفسهم.

لأن الشارع الحكيم قد جعل من مصارف الزكاة المؤلفة قلوبهم، والزكاة فريضة واجبة، فكيف بالهدية التي هي مندوبة في الأصل؟

– ألا يتـرتب على الإهداء إلى الكفار أو قبول هديتهم مفسدة ظاهرة كاستكبار الكفار واستعلائهم، أو تكون مبالغ فيها؛ لورود النهي عن التبذير.

– ألا يتـرتب على الإهداء إلى الكفار تفويتٌ لمصلحة راجحة كسد حاجة المسلم المضطر؛ لأن تقديم الأهم فالأهم منهج شرعي. ويدل على ذلك حديث معاذ -رضي الله عنه- حين بعثه إلى اليمن حيث أوصاه -عليه السلام-بقوله: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم…)11 الحديث.

– أن يتبع ذلك توضيح وشرح عقيدة الولاء والبراء للأبناء والأهل، حتى لا يُغرس في قلوبهم حب الكفار أو عيدهم، أو تتعلق قلوبهم بهم.

وختامـاً:

هذا ما تيسر جمعه في هذه المسألة. والله وحده المسؤول أن يعز المسلمين بالتمسك بدينهم، ويرزقهم الثبات عليه، وينصرهم على أعدائهم، إنه قوي عزيز.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين. ودمر اليهود والصليبيين الحاقدين، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 


 


1 – أخرجه البخاري – (ج 9 / ص 84) ومسلم – (ج 10 / ص 407 – 3851)

2 – شرح النووي على مسلم – (ج 7 / ص 142)

3 – أخرجه البخاري – (ج 9 / ص 85 – 2427) ومسلم – (ج 5 / ص 172- 1671)

4 – اقتضاء الصراط المستقيم" (1/227).

5 – أخرجه أبو داود (ج 11 / ص 48 – 3512) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: 6149.

6 – تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (ج 18 / ص 380)

7 – التاج والإكليل لمختصر خليل (ج 4 / ص 256)

8 – اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (ج 2 / ص 5)

9 – اقتضاء الصراط المستقيم" (1/251).

10 – (فتح الباري 2/315).

11 – أخرجه مسلم (ج 1 / ص 111)