معجزة إحياء الموتى

معجزة إحياء الموتى

معجزة إحياء الموتى

 

الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

يقول الله -تبارك وتعالى-: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ سورة البقرة(259).

 

شرح الآية:

بعد أن ذكر الله -سبحانه وتعالى- أنه المتفرد بالخلق والرزق، والملك والتدبير، والإحياء والإماتة؛ شرع في ذكر الأدلة على ذلك؛ فذكر فيما سبق في مناظرة إبراهيم للنمرود أن الله هو الذي يحيي ويميت، وأنه هو الذي يدبر الأمور، فيأتي بالشمس من المشرق، وهو على كل شيء قدير، ثم أعقب ذلك بذكر أدلة أخرى على تفرده بالإحياء والإماتة؛ فذكر منها قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها؛ فاستبعد أنها تحيا بعدما ماتت؛ فأماته الله مائة عام، ثم بعثه؛ فقال تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ أَوْ حرف عطف؛ والكاف زائدة للتوكيد؛ ومعنى ذلك أنها معطوفة على الَّذِي في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ سورة البقرة(258).

واختلفوا في المار بهذه القرية: فقيل عزير، قال ابن كثير: "وهذا القول هو المشهور" ثم قال: "وذكر غير واحد أنه مات وهو ابن أربعين سنة؛ فبعثه الله وهو كذلك، وكان له ابن فبلغ من السن مائة وعشرين سنة، وبلغ ابن ابنه تسعين وكان الجد شاباً وابنه وابن ابنه شيخان كبيران قد بلغا الهرم، وأنشدني به بعض الشعراء:

وأسوَدُ رأسٍ شاب من قبل ابنه … ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر

يرى أنه شيخاً يدب على عصا … ولحيته سوداء والرأس أشعر

وما لابنه حبل ولا فضل قوة … يقوم كما يمشي الصغير فيعثر

وعمر ابنه أربعون أمرها … ولابن ابنه في الناس تسعين غبر

وأما القرية: فالمشهور أنها بيت المقدس مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها. وَهِيَ خَاوِيَة أي: ليس فيها أحد من قولهم: خوت الدار تخوي خواءً وخُويا."1

وقوله: عَلَى عُرُوشِهَا أي أسقفها، وحيطانها، ومعنى ذلك أن هذه القرية قد باد أهلها، وفني سكانها، وسقطت حيطانها على عروشها، فلم يبق بها أنيس، بل بقيت موحشة من أهلها مقفرة، فوقف عليها ذلك الرجل متعجبا وقَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا؟! استبعاداً لذلك وجهلا بقدرة الله تعالى، فلما أراد الله به خيرا أراه آية في نفسه وفي حماره، وكان معه طعام وشراب.

قوله: فَأَمَاتَهُ اللَّهُ أي قبض روحه. قوله: مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ أي أحياه؛ ولعل قائلاً يقول: إن المتوقع أن يقول: "ثم أحياه" ليقابل أماته؛ لكن "البعث" أبلغ؛ لأن "البعث" فيه سرعة؛ ولهذا نقول: انبعث الغبار بالريح، وما أشبه ذلك من الكلمات الدالة على أن الشيء يأتي بسرعة واندفاع، فهذا الرجل بعثه الله بكلمة واحدة، قال مثلاً: "كن حياً"، فكان حياً.

قوله تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتَ؟ القائل هو الله -عز وجل-، يعني كم لبثت من مدة؟ والمدة التي لبثها هذا الرجل "مائة عام" كما سبق.

فما كان منه إلا أن أجاب قائلاً: قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، أَوْ للشك، قال العلماء: وإنما قال ذلك؛ لأن الله أماته في أول النهار، وأحياه في آخر النهار، فقال: لبثت يوماً إن كان هذا هو اليوم الثاني من موته، أو بعض يوم إن كان هو اليوم الذي مات فيه.

فأجابه الله بقوله: قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ بَلْ هذه للإضراب الإبطالي، يعني لم تلبث يوماً، أو بعض يوم، بل لبثت مائة عام.

قوله تعالى: فَانْظُرْ أي بعينك إِلَى طَعَامِكَ "الطعام" كل ما له طعم من مأكول، ومشروب؛ لكنه إذا قرن بالشراب صار المراد به المأكول، وقد أبهمه الله -عز وجل- ولم يبين من أي نوع هو.

قوله تعالى: وَشَرَابِكَ كذلك لم يبين نوع الشراب، لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يتغير مع بقائه تلك المدة الطويلة.

قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ أي انظر إليه بعينك، فنظر إلى حماره تلوح عظامه ليس فيه لحم، ولا عصب، ولا جلد.

قوله تعالى: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ أي لنصيِّرك علامة للناس على قدرتنا على بعث الأموات من قبورهم، ولتكون أنموذجاً محسوساً مشاهداً بالأبصار، فيعلموا بذلك صحة ما أخبرت به الرسل.

قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا وفي قراءة: "ننشرها" بالراء؛ نُنْشِزُهَا بالزاي يعني: نركب بعضها على بعض؛ من النشَز؛ وهو الارتفاع؛ كقوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا سورة النساء(128)؛ فـ ننشزها يعني نعلي بعضها على بعض؛ فنظر إلى العظام يأتي العظم، ويركب على العظم الثاني في مكانه حتى صار الحمار عظاماً؛ كل عظم منها راكب على الآخر في مكانه، ثم بعد ذلك كسا الله العظام لحماً بعد أن أنشز بعضها ببعض بالعصب؛ أما قراءة "ننشرها" بالراء فمعناها: نحييها؛ لأن العظام قد يبست، وصارت كالرميم ليس فيها أيّ مادة للحياة، ثم أحييت بحيث صارت قابلة لأن يركب بعضها على بعض.

قوله تعالى: ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً أي نسترها باللحم؛ فشاهد ذلك بعينه، فاجتمع عنده آيتان من آيات الله؛ إبقاء ما يتغير على حاله -وهو طعامه، وشرابه؛ وإحياء ما كان ميتاً- وهو حماره.

قوله تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أي تبين لهذا الرجل -الذي مر على القرية، واستبطأ أن الله سبحانه وتعالى يحييها بعد موتها، وحصل ما حصل من آيات الله -عز وجل- بالنسبة له، ولحماره، ولطعامه، وشرابه -تبين له الأمر الذي تحقق به قدرة الله -عز وجل-.

قوله تعالى: قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي أوقن أن الله على شيء قدير، وهو مولانا ونعم المولى ونعم النصير.

 

بعض الفوائد المستفادة من الآية:

1.  بلاغة القرآن، حيث ينوع الأدلة، والبراهين على الأمور العظيمة؛ لقوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ؛ فهذه الآية وما قبلها، وما بعدها كلها في سياق قدرة الله -عز وجل- على إحياء الموتى.

2.  الإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يهتم الإنسان بأعيان أصحاب القصة؛ إذ لو كان هذا من الأمور المهمة لكان الله يبين ذلك: يقول: فلان؛ ويبين القرية.

3.  قصور نظر الإنسان، وأنه ينظر إلى الأمور بمعيار المشاهَد المنظور لديه؛ لقوله هذا الرجل: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا؛ فكونك ترى أشياء متغيرة لا تستبعد أن الله -عز وجل- يزيل هذا التغيير؛ وكم من أشياء قدَّر الناس فيها أنها لن تزول، ثم تزول؛ كم من أناس أمَّلوا دوام الغنى، ودوام الأمن، ودوام السرور، ثم أعقبه ضد ذلك؛ وكم من أناس كانوا على شدة من العيش، والخوف، والهموم، والغموم، ثم أبدلهم الله -سبحانه وتعالى- بضد ذلك.

4.    أن الإنسان إذا استبعد وقوع الشيء -ولكنه لم يشك في قدرة الله- لا يكفر بهذا.

5.    بيان قدرة الله -عز وجل- في إماتة هذا الرجل لمدة معينة، ثم إحيائه؛ لقوله تعالى: فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ.

6.  إثبات الكلام لله -عز وجل-، والقول، وأنه بحرف، وصوت مسموع؛ لقوله تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتَ؟ والأولى الأخذ بظاهر القرآن، وأن القائل هو الله -عز وجل-.

7.  جواز إخبار الإنسان بما يغلب على ظنه، وأنه إذا خالف الواقع لا يعد مخطئاً؛ لقوله تعالى: قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ مع أنه لبث مائة عام.

8.    أن الله قد يمنّ على عبده بأن يريه من آياته ما يزداد به يقينه؛ لقوله تعالى: فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ … إلخ.

9.    أن قدرة الله فوق ما هو معتاد من طبيعة الأمور، حيث بقي هذا الطعام والشراب مائة سنة لم يتغير.

10.     أن الله يحدث للعبد ما يكون عبرة لغيره؛ لقوله تعالى: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ؛ ومثل ذلك قوله تعالى في عيسى بن مريم، وأمه: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ سورة الأنبياء(91).

11.     أنه ينبغي التفكر فيما خلقه الله عز وجل، وأحدثه في الكون؛ لأن ذلك يزيد الإيمان، حيث إن هذا الشيء آية من آيات الله.

12.     أن الله عز وجل جعل اللحم على العظام كالكسوة؛ بل هو كسوة في الواقع؛ لقوله تعالى: ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً، وقال تعالى: فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا سورة المؤمنون(14)؛ ولهذا تجد اللحم يقي العظام من الكسر والضرر؛ لأن الضرر في العظام أشد من الضرر في اللحم.

13.            أن الإنسان بالتدبر والتأمل والنظر يتبين له من آيات الله ما لا يتبين لو غفل؛ لقوله تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ… الخ.

14.     أنه يلزم من النظر في الآيات العلم واليقين؛ لقوله تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ2.. والله نسأل أن يوفقنا لطاعته، وأن يجنبنا معصيته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 تفسير ابن كثير – (ج 1 / ص 687). ط: دار طيبة للنشر والتوزيع. والأبيات وما قبلها من كلام غير وارد في بعض الطبعات، بل سقط منها. وقد أثبته محقق التفسير هنا وهو: سامي محمد سلامة.

2 ينظر: تفسير القرآن العظيم (1/421) لابن كثير. والجامع لأحكام القرآن(3/275). ومعالم التنزيل(317) للبغوي. وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، صـ(112). وتفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث.