رفع الصوت

رفع الصوت

رفع الصوت

الحمد لله الواحد العلي، الواجد الغني، الطاهر عن كل عيب، الظاهر له كل غيب، والصلاة والسلام الأتمان على نبيه المنقذ من الضلالة، المبعوث بالرسالة، وعلى آله وأَصحابه الأخيار المنتخبين، وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وعلى النبيين وآلهم أجمعين، وعلى كل عبد صالح إلى يوم الدين، آمين.. أما بعد:

فإن مما ينبغي للإنسان أن يتحلى بالسكينة والوقار، سكينة في حركاته وصوته وفي تصرفاته كلها، حتى في حال الدعاء، وهو من أعظم العبادات، قال تعالى: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً(55) سورة الأعراف، وقال مادحاً نبيه وعبده زكريا: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا(3) سورة مريم. "لأنَّ رفع الصوت مشعرٌ بالقوَّة والجلادةِ، وإخفاءُ الصوت مشعرٌ بالضعف والانكسار، وعمدة الدُّعاء الانكسار، والتبرِّي عن حول النَّفس وقوَّتها، والاعتمادُ على فضل الله تعالى وإحسانه"1. "قال ابن جريج: يُكره رفعُ الصوتِ والنداءُ والصياحُ بالدعاء، ويُؤمر بالتضرُّع والاستكانة"2. "وروى عن قيس بن عبادة أنه قال: كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يكرهون رفع الصوت عند الذكر"3. حتى في مقام الصلاة، وهي من أفضل العبادات، وفيها ينطق بأجمل الكلام، إلا أنه أمر بخفض الصوت فيها: وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا(110) سورة الإسراء.

فرفع الصوت والصخب ليس من أخلاق المؤمنين سواء في العبادات أو غيرها إلا لمصلحة شرعية.

وقد قال الله تعالى: وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ(19) سورة لقمان، "قال ابن زيد: "لو كان رفع الصوت هو خيراً ما جعله للحمير"4. "وقال سفيان الثوري: صياح كل شيء تسبيح لله -عز وجل-، إِلا الحمار، فانه ينهق بلا فائدة"5. وقال القرطبي: "في الآية دليل على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة والملاحاة، بقبح أصوات الحمير، لأنها عالية"6. وقال السعدي: "فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة، لما اختص بذلك الحمار، الذي قد علمت خسته وبلادته"7. و"قوله تعالى: وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ أي انقص منه، أي لا تتكلف رفع الصوت، وخذ منه ما تحتاج إليه، فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي. والمراد بذلك كله التواضع، وقد قال عمر لمؤذن تكلف رفع الأذان بأكثر من طاقته: لقد خشيت أن ينشق مريطاؤك، والمؤذن هو أبو محذورة سمرة بن معير. والمريطاء: ما بين السرة إلى العانة"8.

وعلى كل فالإسلام كره رفع الصوت حتى في العبادات إلا ما كان في التلبية والأذان والإقامة. وعن عبد الله الجدلي قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح"9. قال المبارك فوري: قوله: (ولا صخاباً) أي: صياحًا"10. "قال العلماء : إن النهي لا يتناول رفع الصوت الذي ليس باختيار المكلف… ولا الذي نيط به صلاح في حرب أو جدال معاند أو إرهاب عدوّ. ففي الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- قال للعباس ابن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين: أصرخ بالناس، وكان العباس أجهر الناس صوتاً. وفيه قال نابغة بني جعدة:

زجر أبي عروة السباع إذا … أشفق أن يختلطن بالغنم

وأبو عروة كنية العباس. زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيشق مرارة السبع في جوفه"11. "وحينما لا تكون هناك حاجة إلى رفع الصوت، فذلك يكون أوقر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع"12. فكيف إذا رفع الصوت بالقول القبيح أو عند الخصومة أوفي المساجد أو عند المصيبة كان أشد قبحاً، و رفع الصوت من المرأة أقبح قال في مواهب الجليل: "رفع الصوت في حق النساء مكروه مع الاستغناء عنه لما فيه من الفتنة وترك الحياء، وإنما تسمع المرأة نفسها"13. ونصح ابن جماعة المتكلم بقوله: "ولا يسرد الكلام سرداً، بل يرتله، ويرتبه، ويتمهل فيه؛ ليفكر فيه هو وسامعه، وقال: ألا يرفع صوته زائداً على قدر الحاجة، ولا يخفضه خفضاً لا يحصل معه كمال الفائدة، وقال: والأولى ألا يجاوز صوته مجلسه، ولا يقصر عن سماع الحاضرين؛ فإن حضر فيهم ثقيل السمع فلا بأس بعلو صوته بقدر ما يسمعه، إذ رفع الصوت أكثر مما يحتاج إليه السامع، ففي ذلك رعونة وإيذاء. إذ لم يكن -عليه السلام- فحّاشاً ولا صخّاباً ولا سبّاباً صخاباً في الأسواق"14. ولا يتنافى ما قلناه مع ما ورد من أن عمر كان إذا قال أسمع، لأن ذلك يحمل عند الحاجة لرفع الصوت. والتوسط في رفع الصوت وخفضه مطلوب، قال البقاعي: "ولما كان رفع الصوت فوق العادة منكراً كما كان خفضه دونها تماوتاً أو دلالاً وتكبراً، وكان قد أشار إلى النهي عن هذا.. فأفهم أن الطرفين مذمومان"15. فعلى الإنسان ألا يبالغ في الجهر إلا لغرض صحيح، ومنه الأذان والإنذار من العدو، لأن رفع الصوت في مواطن القتال يفت في أعضاد العدو. والرسول -صلى الله عليه وسلم، كان يعجبه أن يكون الرجل خافض الصوت، ويكره أن يكون جهير الصوت، والمبالغة في الجهر تشوه الوجه، وتذهب بهاؤه، وتركه أوفر للمتكلم، وابسط لنفس السامع وفهمه. وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن لا يكون صخاباً، ولا صياحاً، ولا حديداً"16. نسأل الله أن يرزقنا السكينة والوقار والتواضع. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 – تفسير اللباب لابن عادل (ج 11 / ص 48) 

2 – تفسير الطبري (ج 12 / ص 487)

3 – تفسير القرطبي (ج 1 / ص 10)

4 – تفسير الطبري (ج 20 / ص 147)

5 – زاد المسير (ج 5 / ص 108)

6 – تفسير القرطبي (ج 14 / ص 72)

7 – تفسير السعدي (ج 1 / ص 648)

8 – تفسير القرطبي (ج 14 / ص 71)

9 أخرجه الترمذي (2016)، وصححه  الألباني في الشمائل ( 298)

10 تحفة الأحوذي (ج 5 / ص 268)

11 – تفسير النيسابوري (ج 7 / ص 38)

12 – أيسر التفاسير لأسعد حومد (ج 1 / ص 3369)

13 – مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل (ج 3 / ص 325)

14 – مع المعلمين (ج 1 / ص 89)

15 – نظم الدرر للبقاعي (ج 6 / ص 352)

16 الدر المنثور (ج 8 / ص 274)