وقفات مع دعاء الذهاب إلى المسجد

 

 

 

 

وقفات مع دعاء الذهاب إلى المسجد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.. أما بعد:

حياة النبي   كلها لله – عز وجل -: صلاته لله، نسكه لله،حياته لله، مماته لله قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ1، فكان في كل وقته ذاكراً لله – عز وجل -؛ يذكر الله في قيامه وقعوده، وذهابه وإيابه ممتثلاً قول ربه: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا2.

ماأجملها من حياة: ذكر ودعاء، خوف ورجاء، ذل وبكاء .. إنها والله بساتين غناء؛ لعلنا نقطف زهرة منها؛ نشم عبيرها؛ ونحيا نسيمها، ننتقل إلى صاحب هذه الجنات؛ إلى النبي   وهو يسير إلى الرياض الغناء، يسير إلى ربه ليناجيه؛ ليشكوهمومه بين يديه، وقبل هذا اللقاء؛ قبل الدخول على ملك الملوك؛ يتمتم  بكلمات يجعلها بين يدي ربه – عز وجل – قبل القدوم عليه((اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً))3، وعن ابن عباس – رضي الله عنه – أن النبي   كان يقول:((اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، ومن أمامي نوراً،ومن خلفي نوراً، واجعل لي في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً))4.

وكان في دعائه: ((اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، واجعل لي نوراً)) وزاد بعضهم:((وفي لساني نوراً)) وذكر: ((وعصبي ولحمي، ودمي وشعري، وبشري))، وفي رواية لهم5: ((واجعل في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً))6.

النبي   يطلب من ربه النور؛ لأنه   يعلم من أين يأتي النور؟ ومن أين ينبثق؟ ومن أين ينتشر الضياء؟ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ7، والله – عز وجل – يجعل لعبده من النور بقدر ما يقترب إليه؛ فكلما ناجاه، وطلب رضاه،وترك ما يأباه؛ آتاه نوراً وهداه؛ فمن النور ما يكون في الصلاة كما في الحديث عن أبي مالك الأشعري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله  : ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن (أوتملأ) ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها))8، “(الصلاة نور) معناه أنها تمنع من المعاصي، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهدي إلى الصواب؛ كما أن النور يستضاء به”9، إنك ترى النور في من قام يصلي لله – عز وجل – في الأسحار؛ قيل للحسن البصري – رحمه الله تعالى -: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها؟ فقال: “لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نوراًمن نوره”10.

النور نجده يتجلى في الحياة مع كتاب الله – عز وجل – قال – تعالى-:قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ11، تجد النور في بيوت الله – عز وجل – إذ تملأ الآفاق نوراً، يرِدُها عباد الله لينهلوا من معينها، ويهتدوا بنورها، فبعد أن ذكر الله نوره الذي تحيا به السموات والأرض؛ أخبر سبحانه أن المساجد تمتلئ بهذا النور قال – تعالى-: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ12.

نعم النور يُقسَّم بين العباد: فهذا تهديه آية يسمعها، وذاك تنفعه موعظة أنصت إليها، وآخر تعمه دعوة صالحة، هذا النور يقسم بين أصحاب الهمم العالية الذين لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة قال – تعالى –:ِرجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ13.

ولما علم النبي   ذلك كله؛ كان وهو ذاهب إلى ذلك النور يسأل ربه أن يجعل النور في قلبه ولسانه، وسمعه وسائر جوارحه، يسأله أن يحفه بالنور من كل الجهات، فهلا تأملت هذا الدر المنثور!!

أتعلم أننا نحتاج – خاصة في هذه الأيام – نوراً يضيء لنا السبل، يشق ظلمات الجهالة،يهدينا سواء الطريق باعثاً الحياة في أرواحنا، نوراً يملأ القلب إيماناً وثباتاً، ويقيناً يحفظه الله به من الشهوات والشبهات، نوراً يملأ السمع والبصر؛ فلا يسمع ولا يبصر إلا ما أحل الله -تعالى – له، نور يملأ اللسان؛ فلا يتكلم إلا بما يرضي الله؛ نور نواجه به نصب الحياة، نسير به إلى الله، قال الإمام النووي – رحمه الله تعالى – في شرح الحديث: “سأل النور في أعضائه وجهاته، والمراد به بيان الحق، وضياؤه، والهداية إليه؛ فسأل النور في جميع أعضائه، وجسمه، وتصرفاته، وتقلباته، وحالاته، وجملته في جهاته الست؛ حتى لا يزيغ شيء منها عنه”14، وقال أبو الحسن السندي: “اجعل في قلبي نوراً.. الخ المراد بالنور أما الهداية والتوفيق للخير، وهذا يشمل الأعضاء كلها؛ لظهور آثاره في الكل، أو المراد ظاهر النور؛ والمقصود أن يجعل الله – تعالى- له في كل عضو من أعضائه نوراً يوم القيامة يستضيء به في تلك الظلم ومن تبعه، والله تعالى أعلم”15.

نور يملأ قبورنا، مؤنساً لنا في وحشتنا، نور يشع بقدر إيماننا؛ ليشق طريقه في ظلمات يوم القيامة؛ يوم يتخبط المقصرون، يوم يفتضح الذين هجروا منابع النور ففقدوا الضياء، والسرور، تركوا بيوت الله – عز وجل -، واغتروا بوميض من شعاع الدنيا؛ تراهم يوم القيامة يتشبثون بمن يعرفون من المؤمنين، المؤمنون الذين كانوا يلتمسون النور في الظلم؛ وهم يسيرون إلى صلاة الفجر، أوصلاة العشاء كما جاء عن بريدة – رضي الله عنه – عن النبي  قال: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة))16،

يأتي إليهم أهل النفاق ينادونهم انظرونا نقتبس من نوركم؛ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ17، ارجعوا فالتمسوا النور ممن جعلتموهم أحب إليكم من الله ورسوله، من الشهوات التي غرقتم في بحارها، من الشبهات التي صدتكم عن سبيل الله – عز وجل -، وإن كنا معكم في الدنيا لكننا كنا نلتمس النور من بيوت الله – تعالى-، نلتمسه من الصلاة، نلتمسه من كتاب الله، فاليوم نفترق يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ18، حتى أهل الإيمان لا يستوي نورهم؛ فمنهم المقل، ومنهم المكثر، كل يجازى بحسب طاعته، ثم ينصرف أهل المساجد، أهل الصلاة، أهل القرآن؛ ينصرفون إلى النور؛ ينصرفون إلى ربهم، وهو النور الذي لطالما اشتاق أولياؤه إليه، فيمنُّ عليهم ربهم بأعظم نعيم في الجنة ألا وهو النظر إليه، فيزدادون نضارة إلى نضارتهم، ونوراً إلى نورهم.

اللهم لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك الكريم، واجعل لنا منك نوراً نهتدي به سواء السبيل، اللهم لا نور إلا نورك فاهدنا إليه، واصرف عنا كل ظلام وضلال وتيه.

والحمد لله رب العالمين.

 


1 سورة الأنعام(162).

2 سورة الإنسان(25).

3 رواه البخاري  ومسلم  والإمام أحمد.

4 أحمد، والنسائي، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزياداته.

5 البخاري ومسلم.

6 ذكر هذه الروايات الألباني في مشكاة المصابيح.

7 سورة النــور(35).

8 صحيح مسلم.

9 صحيح مسلم بتعليق محمد فؤاد عبد الباقي.

10 إحياء علوم الدين.

11 سورة المائدة(15).

12 سورة النــور (36).

13 سورة النــور(37).

14 شرح النووي على مسلم.

15حاشية السندي على النسائي.

16 سنن أبي داود، وصححه الألباني.

17 سورة الحديد (13).

18 سورة الحديد(14).