الوفود في المسجد

الوفود في المسجد

الوفود في المسجد

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير من صلى وصام، وسجد لربه ثم قام، أما بعد:

فإن المتأمل في  سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – يدرك إدراكاً تاماً أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان حريصاً على إخراج الأمة من الظلمات إلى النور؛ بإسلام كافرها، وهداية عاصيها، وإرشاد ضالها، وبعث رسله إلى الملوك والعشائر يدعونهم إلى الإسلام؛ مما أدى إلى تفرق رسله في الأمصار والبلدان، فكان من تأثير هؤلاء الرسل على أرض الجزيرة أن جاءت العشائر وافدةً إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – تسأله عن الإسلام، وتستفسره عن أحكامه، وتستفصل عن معانيه، فكان من الضروري أن يهيء النبي – صلى الله عليه وسلم – مكاناً لاستقبال هذه الوفود يناسب مكانة زعماءهم، ويليق بحفاوة استقبالهم، وكرم ضيافتهم، وحينما رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – أن أغراض هذه الوفود تختلف فمنهم: طالب للعلم، وآخر معلن للإسلام، وثالث طالب لمعونة، ورابع يريد عقد معاهدة…وغيرها من الأغراض التي لا يمكن أن يقوم بها غير المسجد؛ ولما كان تأثير المسجد أبلغ  في النفوس؛ جعله النبي – صلى الله عليه وسلم – مكاناً لاستقبال هذه الوفود، مع ما هم عليه من الكفر والشرك، ليشهدوا تسارع المسلمين إلى المسجد، وحبهم للإسلام، ويسمعوا كلام الله الذي لو نزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، فتلين قلوبهم لذكر الله، ويستجيبون لدعوة الإسلام؛ فيعلنون التوحيد، ويصدعون بكلمة الحق، فكان المسجد في عهده – صلى الله عليه وسلم – أشبه بقاعة رسمية تعقد فيها كل الاجتماعات، وتستقبل فيها كل الوفود.

الوفود التي استقبلها النبي – صلى الله عليه وسلم – في المسجد:

1.  وفد بني سعد بن بكر: فقد أرسلت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة – رضي الله عنه – وافداً إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، قال أنس بن مالك – رضي الله عنه -: بينما نحن جلوس مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في المسجد؛ إذ دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله – أي أوثق حباله -، ثم سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الإسلام، وقال: إني مشدد عليك في المسألة!! فأجابه النبي – صلى الله عليه وسلم – عن أسئلته، فأسلم ودعا قومه إلى الإسلام فأسلموا.1

2.  وفد ثقيف: لما قدم وفد ثقيف على النبي – صلى الله عليه وسلم – قال المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه –: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "أنزل قومي علي فأكرمهم فإني حديث الجرح فيهم"، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا أمنعك أن تكرم قومك، ولكن أنزلهم حيث يسمعون القرآن))، وأنزل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفد ثقيف في المسجد، وبنى لهم خياماً؛ لكي يسمعوا القرآن، ويروا الناس إذا صلوا، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا خطب لا يذكر نفسه، فلما سمعه وفد ثقيف قالوا: يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله، ولا يشهد به في خطبته!! فلما بلغه قولهم قال: ((فإني أول من شهد أني رسول الله))2.

3.  وفد كندة: قال ابن إسحاق: حدثني الزهري قال: قدم الأشعث بن قيس على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ثمانين أو ستين راكباً من كندة، فدخلوا عليه – صلى الله عليه وسلم – مسجده قد رجلوا جممهم، وتسلحوا، ولبسوا جباب الحبرات، مكففة بالحرير، فلما دخلوا قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أولم تسلموا؟)) قالوا: بلى! قال: ((فما بال هذا الحرير في أعناقكم))؟ فشقوه ونزعوه وألقوه3.

4.  وفد نجران: قال ابن إسحاق: وفد على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفد نصارى نجران بالمدينة، فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: لما قدم وفد نجران على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دخلوا عليه مسجده بعد صلاة العصر، فحانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((دعوهم))، فاستقبلوا المشرق، فصلوا صلاتهم4.

5.  وفد بني سعد هذيم من قضاعة: قال الواقدي: عن أبي النعمان عن أبيه من بني سعد هذيم "قدمت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وافداً في نفر من قومي، فنزلنا ناحية من المدينة، ثم خرجنا نؤم المسجد حتى انتهينا إلى بابه، فنجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصلي على جنازة في المسجد، فقمنا ناحيته ولم ندخل مع الناس في صلاتهم؛ حتى نلقى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونبايعه، ثم انصرف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فنظر إلينا فدعا بنا فقال: ((من أنتم؟)) فقلنا: من بني سعد هذيم فقال: ((أمسلمون أنتم؟)) قلنا: نعم! قال: ((فهلا صليتم على أخيكم؟)) قلنا: يا رسول الله ظننا أن ذلك لا يجوز لنا حتى نبايعك، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (( أينما أسلمتم فأنتم مسلمون))، قالوا: فأسلمنا وبايعنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على الإسلام5.

6.  وفد بني أسد: قدم عليه – صلى الله عليه وسلم – وفد بني أسد عشرة رهط فيهم وابصة بن معبد، وطلحة بن خويلد، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – جالس مع أصحابه في المسجد، فتكلموا فقال: متكلمهم يا رسول الله إنا شهدنا أن الله وحده لا شريك له، وأنك عبده ورسوله، وجئناك يا رسول الله ولم تبعث إلينا بعثاً، ونحن لمن وراءن6.

هذه هي بعض الوفود التي استقبلها النبي – صلى الله عليه وسلم – في مسجده الشريف، … وغيرها كثير لا يتسع المجال لذكرها كلها.

لقد أخذت هذه الوفود الإسلام من منبعه الصافي، وعادوا به إلى قومهم منذرين، ونشروه في مشارق الأرض ومغاربها؛ لأنهم تخرجوا من جامعة الحبيب – صلى الله عليه وسلم -.

اللهم إنا نسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفذ، وقرة عين لا تنقطع، وارزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم.

والحمد لله رب العالمين.


 


1– زاد المعاد ج3 بتصرف.

2– المرجع السابق بتصرف.

3– المرجع السابق بتصرف يسير.

4– زاد المعاد ج3 بتصرف.

5– المرجع السابق بتصرف.

6– المرجع السابق بتصرف.