القمار

 

 

القِمَـار

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) سورة آل عمران. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) سورة النساء. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (7-71) سورة الأحزاب.

أيها الناس:

يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا* وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا(30) سورة النساء.

من الآفات التي أصبح مجتمعنا يشكو منها أكل أموال الناس بالباطل، أي أكل أموال الغير ظلماً وعدوانا كالغصب والخيانة والاحتيال والخداع والغش في المعاملات والقمار.

وفي هذه الآيات الكريمة ينهانا الله -سبحانه وتعالى- عن أكل أموال الناس بالباطل بشتى أنواع الطرق والوسائل.

وقوله تعالى: إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ (29) سورة النساء. أي أن تكون تجارة حرة شريفة بعيدة عن المراوغة والغش والخداع، وقد حذر   من أكل الحرام عموماً بقوله: (لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به)1. ولقد حرم الله القمار وسماه ميسراً في قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءفِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ(90-91) سورة المائدة.

وسبب تحريمه أنه أكل أموال الناس بالباطل المنهي عنه في الآية السابقة، لذلك فالميسر أو القمار هو من كبائر الذنوب، حيث ذكر الله -عز وجل- بالخمر والأنصاب والأزلام، والغاية من تحريمه أن الله تعالى يريد من المسلم أن يكسب معيشته بالطرق المشروعة كالبيع والشراء والفلاحة والصناعة وسائر الحرف والمهن.

والقمار يجعل الإنسان يعتمد على الحظ والصدفة والأماني والأحلام الكاذبة، دون الاعتماد على الله -عز وجل- والتوكل عليه في مباشرة الأعمال الدنيوية المشروعة، هذا ومن جهة أخرى فإن الإسلام يعتبر المال الحلال له حرمة, فلا يجوز أكله بالباطل.

والرسول   يقول: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)2، إلا عن طريق معاملة شرعية أو عن طيب نفس منه بهبة أو صدقة، أما أخذه منه غصباً عن طريق القمار فهذا هو عين الحرام وأكل المال بالباطل.

وحرم الله القمار أيضاً لأنه يورث العداوة والبغضاء بين الناس، وإن أظهروا بألسنتهم الرضا فإنهم دائماً بين غالب ومغلوب، والمغلوب وإن سكت فإنه يسكت عن حقد وعداوة شديدة, ويحقد على من خاب أمله ويعادي من فشلت صفقته، وخسرت تجارته، والخسارة تدفع الخاسر إلى المعاودة لعله يعوض في المرة القادمة ما خسره في المرة السابقة، وكذلك الغالب تدفعه نشوة الربح إلى التكرار، ويدعوه قليل الربح إلى كثيرِه، ولا يتركه فيؤدي ذلك إلى الإدمان على هذه الآفة وعدم التوبة منها. وصاحب نادي القمار كالمنشار في كل مرة يأكل من الفريقين، وفي أكثر الأوقات كل مال المتقامرين يتجمع له، وبعد برهة ينتقل الرابح من نشوة النصر إلى غم الإفلاس والخسران، وهكذا دائماً أبداً بشكل يشد كلاً من الرابح والخاسر إلى طاولة اللعب ولا يمكنه من الإفلات عنها.

عباد الله:

هذه هي كارثة الميسر على الفرد والمجتمع، زد على ذلك أن المقامر مشغول عن واجبه تجاه ربه وواجبه نحو ذريته وأولاده وبيته، ولا شك أن من دخلت هذه المعاملة المنكرة قلبه فأحبها فقد لا يتورع من أجلها أن يبيع دينه وعرضه ووطنه، فإن علاقته بهذه الكبيرة تغرس في قلبه حب المقامرة بكل شيء وحتى بشرفه وعقيدته وقومه ووطنه في سبيل كسب باطل موهوم.

وصدق الله العظيم حيث يجمع بين الخمر والميسر في آياته وأحكامه فهو سبحانه يعطينا النتيجة المترتبة عن الخمر والميسر ويبين أضرارها على الفرد والمجتمع والأسرة والوطن والأخلاق بقوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (91) سورة المائدة.

وفي إحدى الولايات المشتهرة بالقمار بات يعرف عندهم أماكن كثيرة مرتفعة يلقى المقامرون أنفسهم منها لينتحروا بعد الإفلاس من كل ما يملكونه فبعد أن يلعب المقامر على كل شيء يملكه بما فيها، زوجته وسيارته فإذا خسر طاولة اللعب صعد إلى هذه الأماكن.. لينتحر أي ليقتل نفسه والعياذ بالله؛ ذلك أن المقامر قليل الشرف والدين والضمير والأخلاق, لا يتحرج عن تقديم زوجته وبناته لكسب المال ليلعب به، ويبيع كل شيء تصل إليه يده ليقامر به حتى فراشه الذي ينام عليه، وهذه مسائل مشاهدة رأي العين في المقامرين تجده يقترض في أول الشهر وقد يسرق من طعام أطفاله كل ذلك من أجل القمار.

لقد اتخذ القمار في البلاد صفات وألواناً متعددة، فهيئت له النوادي، وبنيت له المراكز الخاصة به، وأصبح له رواد من الأغنياء والفقراء، وكل هذا من حملات الفساد التي دخلت على المجتمعات ولم تكن فيهم وقد أطلقوا على القمار أسماء كثيرة فسموها باللوتو واليانصيب، ونشروها بين أبناء المسلمين ليستغلوا بها العقول ويستولوا بها على الضمائر، فدخل القمار البلاد الإسلامية بجميع أنواعه، ولربما هناك بعض أنواع القمار محرمة في بلاد غير المسلمين، لكن في بلاد المسلمين مباحة وأبوابها مفتوحة بكل حرية ومزدحمة بالطماعين المتكاسلين والعاطلين، فاشتغل كثير من الناس بهذه الآفة الخطيرة (القمار) وتعلقت قلوب الرجال والنساء والأطفال بالربح الخيالي الذي ينتظرونه في كل لحظة عن طريق الميسر والقمار، والمستفيد الوحيد من هذا كله هم أعداء المجتمع الذين لا تشفق قلوبهم على تفكيك الأسر وهدم البيوت من وراء القمار، والمسؤولية العظمة والعلاج الناجح يبقى وإنما بيد المجتمع عموماً حكاماً ومحكومين، رؤساء ومرؤوسين، فكم من أولاد في الشوارع من غير تربية ولا تعليم وكان سبب هذا التشريد أبوهم المقامر، وكم من نساء خرجن للبغاء والفساد بسبب القمار، وكم من أرواح أزهقت ونفوس قتلت وخاصة من الشباب بسبب هذا الداء العضال داء القمار والميسر والجالية التى تغربت عن البلاد ينبغي أن تعي تماما أن هذا الداء يحمل من هنا وهناك وينشر بين الناس ألا فاحذروا وأقلعوا عن هذه المعاملة المحرمة، وهذا الفعل الشنيع الذي حرمه ربنا في كتابه ورسولنا في سنته، وأجمع المسلمون على تحريمه حيث يؤدي العمل به إلى أكل أموال الناس بالباطل والاعتداء على أموال الناس وغصبها، والواجب على كل مسلم أن يكسب المال من الحلال ليكسبه من الطرق المشروعة النظيفة الخالية من الشبهة والريبة، فالرسول  يقول: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)3.4.

اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن, ونستغفرك اللهم ونتوب إليك إنك غفور رحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله القوي العظيم, الرؤوف الرحيم, يقضي بالحق ويحكم بالعدل وهو الحكيم العليم, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من العذاب الأليم والفوز بالنعيم المقيم, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بالحق الداعي إلى صراط مستقيم, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في هديهم القويم، وسلم تسليماً, أما بعد5:

عباد الله:

إن التعامل بما يسمى “اليانصيب”  والتي يتعاطاها بعض الناس بالمخاطرة في سائر الألعاب، هي منكر، فالميسر منكر وهو القمار، وحرمه الله -عز وجل- لما فيه من أكل المال بالباطل؛ لأنه يُفقد الإنسان الإحساس والشعور أثناء انغماسه في اللعب، حتَّى إنه لا يبالي بالمال يخرج من يده إلى غير رجعة طمعاً في أن ينال أكثر منه، فإذا رجع خاسراً أكلت قلبه الندامة، وحرق جوفه الحسد، وامتلأت نفسه حقداً وغيظاً على من سلبه المال، وربَّما أدَّى به ذلك إلى قتل من كان سبباً في خسارته، أو ربَّما قتل نفسه هرباً من عواقب الجريمة الَّتي ارتكبها في حقِّ نفسه وحقِّ عياله.

فكم من أسرة تهدَّمت، وكم من عائلة تشرَّدت بسبب مقامرة أربابها بعد أن كانت تتقلَّب في ربوع النعيم والرفاهية، إضافة إلى أنه وسيلة كسبٍ غير مشروعة لأنها تقوم على الحظِّ والمصادفة، ولا تحتاج إلى عناء عمل أو إعمال فكر يعودان في النهاية بفائدة على المجتمع.

وهكذا فإن طاعة الله -عزَّ وجل- فيما جاء به من أوامر وإرشادات للمحافظة على قوام المجتمع سليماً معافى تقطع دابر الشيطان، وتسدُّ في وجهه جميع المنافذ، وتأخذ بيد الإنسان إلى واحة الطمأنينة والسكينة المنشودة، والَّتي هي أمل كلِّ إنسان، لكنَّها لا تتحقَّق إلا بالسير على المنهج الإلهي للحياة6.

أيها المسلمون:

إن القمار لموقع للعداوة والبغضاء؛ ذلك أن الخاسر من المتقامرين يقع في قلبه من الهم والغم والحزن والنظر إلى أخيه بعين السخط ما لا حاجة إليه، وإن الواجب على من وقع منه ذلك أن يتوب إلى الله وأن يفسخ العقد ويرد السلعة إلى صاحبها ويأخذ الثمن إن كان قد سلمه.

واعلموا أن من شروط العقود أن تكون برضىً من الطرفين، فمن أُخِذ ماله بغير رضا منه ببيع أو إجارة أو غيرهما فالعقد حرام باطل, إلا أن يكون ذلك بطريق شرعي.

فاتقوا الله -أيها المسلمون- وتمشوا في معاملاتكم على الوجه الذي أذن لكم فيه ربكم، ولا تتعدوا حدوده فتهلكوا، واعلموا أن كل مال كسبه الإنسان أو أخذه بغير طريق حلال فلا خير فيه ولا بركة، بل هو شر ووبال على صاحبه إن أنفقه لم يبارك له فيه، وإن تصدق به لم يقبل منه، وإن خلفه بعده كان زاداً له إلى النار، وإن تغذى به فدعا الله فلن يستجاب له، وباب التوبة للتائبين مفتوح.

اللهم اجعلنا ممن اختاروا هداهم على هواهم، ورضوا بشريعتك، واطمأنوا بها، وانشرحت لها صدورهم، فلم يبغوا عنها حولاً، ولم يرضوا بها بديلاً, للهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم لا تجعلنا ممن زين له سوء عمله فرآه حسناً، فأصبح من الخاسرين أعمالاً، الضالين طريقاً، واهدنا صراطك المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إنك جواد كريم.

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد, كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم, إنك حميد مجيد, اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد, كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم, إنك حميد مجيد, وسلِّم تسليماً كثيراً, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 


1 رواه الترمذي (558) (ج 3 / ص 1) وأحمد (13919) (ج 28 / ص 468) وصححه الألباني في تحقيق سنن الترمذي برقم (614).

2 رواه مسلم برقم (4650) (ج 12 / ص 426).

3 رواه مسلم برقم (1686) (ج 5 / ص 192).

4 مستفاد من موقع أهل السنة والجماعة.

5 من كتاب الضياء اللامع من الخطب الجوامع لـ(ابن عثيمين).

6 مستفاد من موقع المختار الإسلامي.