روح الصلاة ولبها

روح الصلاة ولبها

روح الصلاة ولبها

 

الحمد لله رب العالمين، جعل الخشوع في الصلاة سمةً من سمات المؤمنين، وطريقاً للوصول إلى مراتب المفلحين، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، وأشرف الخاضعين والخاشعين، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد بن عبدالله، وارض اللهم عن آله وأصحابه وأزواجه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله رب العالمين، وكونوا بدينكم مستمسكين، وعلى عموده محافظين، وفيه خاشعين خاضعين، تسلكوا سبيل المفلحين، وهذا- وايم الله- غاية العاملين.

عباد الله: إنه نتيجة لارتماء كثير من الناس في أحضان الدنيا، والتنافس في جمع حطامها، وانشغال القلوب والهمم بها، ونسيان الدار الحقيقية، والغفلة عن العمل لها؛ في هذه الدوامة تناسى بعض الناس خالقهم ورازقهم؛ فلم يبالوا بشرعه، ولم يكترثوا لدينه، وصدق فيهم قول الحق- تبارك وتعالى-: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا سورة مريم(59).

وصنف آخر من الناس يؤدي الصلاة، ولكن مع الوقوع في الخلل، والاستمرار في الزلل؛ يصلون ولكن لا تُرى آثار الصلاة عليهم، لا يتأدبون بآدابها، ولا يلتزمون بأركانها وواجباتها، صلاتهم صورية عادية؛ لإخلالهم بلبها وروحها وخشوعها، يصلون أشباحاً بلا أرواح، وقوالب بلا قلوب، وحركات بلا مشاعر وأحاسيس، صلاتهم مرتع للوساوس والهواجس، يدخل الشيطان على أحدهم وهو في صلاته، فيصول ويجول بفكره في مجالات الدنيا؛ يتحرك ويتشاغل، ويستطيل ويتثاقل، ويتلفت بقلبه وبصره إلى حيث يريد، فينفتل عن صلاته1، ولم يعقل منها إلا قليلاً، بل لعل بعضهم لا يعقل منها شيئاً.

ثم لا تسأل عن الأحوال، وسيء الأعمال بعد الصلاة: فحش في القول، وإساءة في الفعل، وأكل للحرام، وتعسف في الأخلاق2، وإصرار على المعاصي.

وربما تساءل بعضهم: ألم يقل الله -عز وجل-: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ سورة العنكبوت (45)؛ فأين نحن من هذه الآية، فنحن نؤدي الصلاة، ولكن لا أثر لها في حياتنا، ولا ثمرة لها في واقعنا، وتغيير أحوالنا، وتحسن مناهجنا وتصوراتنا، وصلاح سائر جوانب حياتنا؟!!.

وهنا أقول: إن السبب في ذلك كله: هو إخلالنا بروح الصلاة ولبها، الخشوع فيها، فما مكانة الخشوع في الصلاة؟ وما معناه؟ وما الأسباب الجالبة له، والآثار المترتبة عليه؟ هذا ما سنتطرق إليه-بحول الله- بعد أن تفاقم الأمر، وعم  التقصير في ذلك، حتى أصبح ظاهرة خطيرة تستحق الاهتمام والمعالجة على ضوء الكتاب والسنة.

إخوة الإسلام: لقد مدح الله المؤمنين وأثنى عليهم، ووصفهم بالخشوع له في أجل عباداتهم، ورتب على ذلك الفوز والفلاح؛ فقال جل وعلا: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ سورة المؤمنون (1-2)؛ قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "أي قد فازوا وسعدوا وحصلوا على الفلاح".3

"وأصل الخشوع: هو لين القلب ورقته، وسكونه وخضوعه، وانكساره وحرقتُه؛ فإذا خشع القلبُ، تبعه خشوع جميع الجوارح؛ لأنها تابعة له"، وقد رأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في الصلاة، فقال: "لو خشع قلب هذا، لخشعت جوارحه"4، روي ذلك عن حذيفة –رضي الله عنه- وسعيد بن المسيب -رحمه الله- ويروى مرفوعاً؛ لكن بإسناد لا يصح5.

وفي معنى الخشوع في الصلاة أيضاً، قال علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-: "هو الخشوع في القلب، وأن تلين للمرء المسلم كنفك، وألا تلتفت في صلاتك يميناً وشمالاً"، وعن ابن عباس-رضي الله عنه- في قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، قال: " خائفون ساكنون"، وعن الحسن -رحمه الله- قال: "كان خشوعهم في قلوبهم؛ فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا الجناح"، وقال ابن سيرين -رحمه الله-: " كانوا يقولون: لا يجاوز بصرُه مصلاه"6.

هذا هو منهج السلف -رحمهم الله- الذين كانت قلوبهم تستشعر رهبة الوقوف في الصلاة بين يدي الله، فتسكن وتخشع؛ فيسري الخشوع منها إلى الجوارح والملامح والحركات، ويغشى أرواحهم جلال الله وعظمته، وهم يقفون بين يديه، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل عندما يشتغلون بمناجاة الجبار جل جلاله، ويتوارى عن حسهم في تلك الحالة كل ما حولهم، فيتطهرُ وجدانهم من كل دنس، وينفضون عنهم كل شائبة؛ وعندئذ تتضاءل المادياتُ، وتتلاشى جميع المغريات، وحينئذ تكون الصلاة راحة قلبية، وطمأنينة نفسية، وقرة عين حقيقية؛ كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس-رضي الله عنه-: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)7.

وفي المسند أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قم يا بلال فأرحنا بالصلاة)8.

الله أكبر! إنها الراحة الدائمة للنفوس المطمئنة؛ لكي تشعر من خلال أدائها أنها تناجي من بيده ملكوت كل شيء، وأن المصلي حينما يكبر ويرفع يديه إنما يعظم الله، وإذا وضع اليمنى على اليسرى فهو ذل بين يدي مولاه، وقد سئل الإمام أحمد-رحمه الله- عن المراد بذلك؟ فقال: "هو ذل بين يدي عزيز"9، وإذا ركع فهو: إقرار بعظمة الله، وإذا سجد فهو: تواضع أمام علو الله تبارك وتعالى.

وهكذا يكون المسلم في صلاته يوثق الصلاة بالله، ليفوز بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد؛ أخرج الإمام مسلم وغيره عن عثمان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفار لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤت كبيرة؛ وذلك الدهر كله)10.

أيها المسلمون: إن المصلي حقاً هو الذي يقيم الصلاة كاملة الفرائض والأركان، مستوفية الشروط والواجبات والآداب؛ يستغرق فيها القلب، ويتفاعل من خلاله الوجدان، ويحافظ عليها محافظة تامة قدر الطاقة، يبعثه على ذلك قلب يقظ، وشعور صادق، وإحساس مرهف، وضمير حيٌّ، فيتصرف بكليته إلى الصلاة؛ لأن الخشوع فيها إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها.

ومنزلة الخشوع من الصلاة كمنزلة الرأس من الجسد؛ فالذي يجعل الصلاة مرتعاً للتفكير في أمور دنياه، وحلاً للهواجس في مشاغله: قلبه في كل واد، وهمه في كل مكان، يختلس الشيطان من صلاته، بكثرة التفاته، وعبثه بملابسه ويده، ورجله وجوارحه، وربما أخل بطمأنينتها، ولم يعِ ما قرأ فيها، فيخشى أن ترد عليه صلاته، فقد ورد: أن أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، فلا يتم ركوعها، ولا سجودها ولا خشوعه11، كما ورد أن صلاة من هذه حاله: "تلف كما يلف الثوب الخَلَقُ؛ فيضرب لها وجه صاحبها"12 عياذا بالله.

أمة الإسلام: إنه لما طال بالناس الأمد، وقست قلوبهم، وأساء كثير منهم فهم شعائر الإسلام- أصبحتْ ترى من يخل ببعض الشروط والأركان والواجبات؛ فلم تؤت الصلاة ثمرتها في قلوب كثير من الناس، ولم تؤثر في حياتهم، فمنهم من يؤديها ولكن لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ولا تمنعه مما يخدش العقيدة، أو يخالف الحق، أو يناقض مبادئ الإسلام، ولا تمنعه من تعاطي الربا والرشوة، وشرب المسكرات، وتعاطي المخدرات، وما إلى ذلك من المحرمات، ولا يتورع عن ظلم العباد وغشهم، وإيقاع الأذى بهم، هل أولئك قد أقاموا الصلاة وأدوا حقها؟!.

والله! لو فعلوا ذلك لانتهوا عن كل محرم، ولأقلعوا عن كل ما يخالف شرع الله جل جلاله، ولكنهم أضاعوا جوهر الصلاة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! روى الترمذي وغيره عن جبير بن نفير أن عبادة بن الصامت-رضي الله عنه- قال: "أول علم يرفع من الناس: الخشوع؛ يوشك أن تدخل مسجد الجماعة، فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً"13؛ فالله المستعان!.

أيها المسلمون: ما هي حالنا اليوم مع هذه الفريضة العظيمة؟! أجساد تهوي إلى الأرض، وقلوب غافلة، وأفئدة متعلقة بالدنيا، إلا من رحم الله! فهل من عودة صادقة -أيها المسلمون- على ترسم خُطا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في هذه الفريضة العظيمة وغيرها من فرائض الإسلام؟! نرجو ذلك وما هو على الله بعزيز!.

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ سورة الحديد(16).

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

 الحمد الله الحكيم العليم، وأشهد أن لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى التابعين له بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله وعظموا شعائر دينكم، واستحضروا فيها عظمة بارئكم جل وعلا، وفرغوا قلوبكم من الشواغل الدنيوية والعلائق المادية، وأقيموا صلاتكم بقلوب حاضرة خاشعة.

واعلموا -رحمكم الله- أن أكبر ما يعين على الخشوع في الصلاة: حضور القلب فيها، واستشعار عظمة الخالق جل وعلا، وتصفية القلوب من الصوارف عن الله والدار الآخرة، والتخفف من شواغل الدنيا، وعمارة القلوب بالإيمان، وسد منافذ الشيطان.

 ومما يعين على ذلك أيضاً: قصر النظر على موضع السجود، ووضع اليد اليمنى على اليسرى حال القيام، والتدبر فيما يقرأ من القرآن، وفيما يردد من الأدعية، وعدم الالتفات، ومراعاة الطمأنينة، والحذر من العجلة المسابقة والعبث والحركة.

كل ذلك -مع توفيق الله عز وجل- من الأسباب التي تعين المسلم على الخشوع في صلاته؛ وبذلك يحل لإشكال الذي يشغل بال كثير من المصلين.

فعلى المسلم: أن يروض نفسه على ذلك، ومتى علم الله من عبده الرغبة في الخير وفقه له، وأعانه عليه، ولو أن المسلمين اليوم أدوا هذه الصلاة كما سنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكانت -بتوفيق الله- انطلاقة جادة لإصلاح أوضاعهم، وتغيير أحوالهم، وسلام مجتمعاتهم، وطريقاً إلى النصر على أعدائهم، وتحقيق ما يصبون إليه في دنياهم وأخراهم؛ لأن في تطبيق شعائر الإسلام السلاح القوي، والدرع الواقي من كل مكروه؛ لأن الدافع إليه قوة الإيمان، وصدق اليقين والشوق إلى الآخرة.

ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الناصح الأمين، سيد الأولين والآخرين، وأفضل الخاشعين؛ كما أمركم الله رب العالمين بالصلاة والسلام عليه بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا14. سورة الأحزاب(56).


 


1 انفتل عن صلاته، أي انصرف عنها.

2 أي تخبط فيها على غير هداية من شرع أو عقل.

3  تفسير القرآن العظيم(5/461).

4 انظر: "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" للسيوطي(5/4).

5 الخشوع في الصلاة لابن رجب الحنبلي، صـ(17)

6 تفسير الطبري (9/197- 198).

7 رواه أحمد والنسائي من حديث أنس، وقال الألباني: "صحيح"؛ كما في صحيح الجامع، رقم (3124 ).

8 رواه أحمد وأبو داود، وقال الألباني: "صحيح"؛ كما في صحيح الجامع، رقم (7892).

9 انظر: طبقات الحنابلة، صـ(1/213).

10 رواه مسلم وأحمد وابن حبان والبيهقي والبزار.

11 رواه أحمد في المسند من حديث أبي قتادة، وقال الألباني: "صحيح"؛ كما في صحيح الجامع، رقم (986)، وفي صحيح الترغيب والترهيب، رقم(524).

12 رواه الطيالسي والطبراني في الأوسط من حديث عبادة وأنس، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم(301 ).

13  رواه الدرامي والترمذي والحاكم، وصححه الألباني.

14 راجع: كوكبة الخطب المنيفة من منبر الكعبة الشريفة (194- 203) للشيخ عبدالرحمن السديس. بتصرف.