وفد بني عامر بن صعصعة

وفد بني عامر بن صعصعة

وفد بني عامر بن صعصعة

 

الحمد لله الهادي إلى أقوم سبيل، منزل القرآن والتوراة والإنجيل، وجاعل القرآن مهيمناً على ما سبقه من الكتب والتنزيل، نحمده حمد من عرف فضله الجليل، وعطاءه الجزيل، ونصلي ونسلم على نبيه الخليل، نبينا محمد الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور في زمن مختصر قليل، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه ذوي العزة والسؤدد والخلق النبيل، أما بعد:

فإن الله عز وجل أكرم نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- بأن جعله خاتم النبيين والمرسلين، وأنزل عليه كتابه المبين ليكون حجة للعالمين ونوراً للثقلين، فهدى الله بهذا النبي والكتاب من هدى من البشر قبلنا، وكان من أعظم المواقف التي وقعت في تاريخ الإسلام ما أكرم الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- من دخول الناس في دينه أفواجاً بعد النصر المبين والفتح العظيم الذي حاز شرفه سيد ولد آدم وهو المسمى فتح مكة، وما أجرى الله على يديه من إرعاب الروم وإخافتهم وكان آخر ذلك ما عزم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من الزحف إلى مشارف ديار الروم في الشام، وسمي ذلك الحدث العظيم بغزوة تبوك التي لم يقع فيها قتال، إكراما من الله لنبيه وفضلاً منه لعباده وترهيبا لأعداء دينه والمفترين عليه الكذب بقولهم اتخذ الله ولداً، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً..

بعد تلك الأحداث العظام والنوازل الجسام مكن الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في الأرض فجاءته الوفود من كل مكان تؤمن به وتناصره، ومن تلك الوفود وفد بني عامر بن صعصعة.

قال ابن إسحاق: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني عامر، فيهم عامر بن الطفيل، وأربد ابن قيس، وجبار بن سلمى، وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم (فقدم عامر بن الطفيل عدو الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد الغدر به) -وجبار بن سلمى هذا هو قاتل عامر بن فهيرة ببئر معونة وأسلم مع من أسلم من بني عامر والله أعلم- وقد قال لعامر بن الطفيل قومه: يا عامر إن الناس قد أسلموا فأسلم.

قال: والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، أفأتبع عقب هذا الفتى من قريش؟ ثم قال الأربد: إذا قدمنا على الرجل فسأشغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعْلُه بالسيف.

وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فإن الناس إذا قتلت محمداً لم تزد على أن تلتزم بالدية وتكره الحرب فسنعطيهم الدية، قال أربد: أفعل.

فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: وانتهى إليه عامر وأربد، فجلسا بين يديه.

قال ابن إسحاق: قال عامر بن الطفيل: يا محمد خالني.

قال: (لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له) قال: يا محمد خالني، وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به.

لعل أربد لا يحير شيئاً !

وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن يد أربد يبست على السيف فلم يستطع سله.

قال ابن إسحاق: فلما رأى عامر أربد ما يصنع شيئا قال: يا محمد خالني.

قال: (لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له).

وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فقال عامر: ما تجعل لي يا محمد إن أسلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم).

قال عامر: أتجعل لي الأمر بعدك إن أسلمت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس ذلك لك ولا لقومك، ولكن لك أعنة الخيل).

قال: أنا الآن في أعنة خيل نجد، أتجعل لي الوبر ولك المدر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا).

فلما قاما عنه قال عامر: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمنعك الله عز وجل).1

وفي حديث موله بن (كثيف) بن حمل: والله يا محمد لاملأنها عليك خيلاً جرداً ورجالا مردا ولأربطن بكل نخلة فرساً.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اكفني عامراً). وفي رواية: (واهد قومه).

قال ابن إسحاق: فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر لأربد: ويلك يا أربد: أين ما كنت أمرتك به؟ والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندي على نفسي منك وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبداً.

قال: لا أبا لك لا تعجل علي، والله ما هممت بالذي أمرتني به من أمره إلا دخلت بيني وبين الرجل حتى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف؟

وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فلما خرج أربد وعامر من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانا بحرة واقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير فقالا: أشخصا يا عدو الله عز وجل لعنكما الله.

فقال عامر: من هذا يا أربد؟ قال: هذا أسيد بن الحضير، فخرجا.

وروى البيهقي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة رحمه الله، قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم على عامر بن الطفيل ثلاثين صباحاً: (اللهم اكفني عامر بن الطفيل بما شئت وابعث عليه داء يقتله).

حتى إذا كان بالرقم بعث الله تعالى على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول. فجعل يمس قرحته في حلقه ويقول: يا بني عامر أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول، يرغب أن يموت في بيتها.

ثم ركب فرسه فأحضرها وأخذ رمحه وأقبل يجول، فلم تزل تلك حاله حتى سقط فرسه ميتاً.

قال ابن إسحاق: ثم خرج أصحابه حين واروه حتى قدموا أرض بني عامر شاتين. فلما قدموا أتاهم قومهم فقالوا: ما وراءك يا أر بد؟ قال: لا شيء، والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت لو أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله!!

فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يبيعه، فأرسل الله عز وجل عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما.

عن ابن عباس قال: فأنزل الله عز وجل في عامر وأربد: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار*عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال*سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار*له معقبات من بين يده ومن خلفه يحفظونه من أمر الله). يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أربد وقتله فقال الله تعالى: (وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له ومالهم من دونه من وال*هو الذي يريكم البرق خوفاً وطعماً وينشئ السحاب الثقال*ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال) سورة الرعد: الآية 8-11.

وقد ذكر ابن كثير رحمه الله هذه القصة بإسناده إلى الطبراني إلى ابن عباس.. كما في البداية والنهاية.2

قال ابن إسحاق: وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه، فقال لبيد يبكي أربد:

مَا إنْ تُعَدّي الْمَنُونُ مِنْ أَحَدٍ … لَا وَالِدٍ مُشْفِقٍ وَلَا وَلَدِ

أَخْشَى عَلَى أَرْبَدَ الْحُتُوفَ وَلَا … أَرْهَبُ نَوْءَ السّمَاكِ وَالْأَسَدِ

فَعَيْنٍ هَلّا بَكَيْت أَرْبَدَ إذْ … قُمْنَا وَقَامَ النّسَاءُ فِي كَبَدِ

إنْ يَشْغَبُوا لَا يُبَالِ شَغْبَهُمْ … أَوْ يَقْصِدُوا فِي الحكوم يَقْتَصِدْ

حُلْوٌ أَرِيَبٌ وَفِي حَلَاوَتِهِ … مُرّ لَطِيفُ الْأَحْشَاءِ وَالْكَبِدِ

وَعَيْنِ هَلّا بَكَيْت أَرْبَدَ إذْ … أَلْوَتْ رِيَاحُ الشّتَاءِ بِالْعَضَدِ

وَأَصْبَحَتْ لَاقِحًا مُصَرّمَةً … حَتّى تَجَلّتْ غَوَابِرُ الْمُدَدِ

أَشْجَعُ مِنْ لَيْثِ غَابَةٍ لَحِمٍ … ذُو نَهْمَةٍ فِي الْعُلَا وَمُنْتَقَدِ

لَا تَبْلُغُ الْعَيْنُ كُلّ نَهْمَتِهَا … لَيْلَةَ تُمْسَى الْجِيَادُ كَالْقِدَدِ

الْبَاعِثُ النّوْحَ فِي مَآتِمِهِ … مِثْلَ الظّبَاءِ الْأَبْكَارِ بِالْجَرَدِ

فَجَعَنِي الْبَرْقُ وَالصّوَاعِقُ … بِالْفَارِسِ يَوْمَ الْكَرِيهَةِ النّجُدِ

وَالْحَارِبِ الْجَابِرِ الْحَرِيبِ إذَا … جَاءَ نَكِيبًا وَإِنْ يَعُدْ يَعُدِ

يَعْفُو عَلَى الْجَهْدِ وَالسّؤَالِ كَمَا … يُنْبِتُ غَيْثُ الرّبِيعِ ذُو الرّصَدِ

كُلّ بَنِي حُرّةٍ مَصِيرُهُمْ … قُلّ وَإِنْ أَكْثَرَتْ مِنْ الْعَدَدِ

إنْ يُغْبَطُوا يَهْبِطُوا وَإِنْ أُمِرُوا … يَوْمًا فَهُمْ لِلْهَلَاكِ وَالنّفَدِ3

 

هذه قصة وفد بني عامر بن صعصعة، وما فيها من الدروس والعبر نوجزه في الأسطر التالية:

   يظهر في هذه القصة حفظ الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- من الأعداء، حيث منع الله تعالى الكافر عامر بن الطفيل وصاحبه من المساس بالنبي -صلى الله عليه وسلم-.

   أن الأمر لله من قبل ومن بعد، وأن الذي يسلم لا لأجل منصب يناله، وإنما ليعتق نفسه من النار ولينال رضا الله جل جلاله، ولهذا لما قال عامر: ما تجعل لي يا محمد إن أسلمت؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم). وتظهر عزة الإسلام من خلال كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا وغيره من المواقف والأحاديث، كأنه يقول له -صلى الله عليه وسلم-: إن لم تسلم فإن الله ناصر دينه بغيرك، وإن أسلمت فهو خير لك.

   انتقام الله من الكافرين المعاندين لدينه ولنبيه، ولو طالت حياتهم بعد كفرهم وشرهم فإن الله يمهلهم زماناً لعلهم إليه يرجعون، فإذا تمادوا في شرهم وكفرهم بعدما سمعوا كلام الله وكلام رسوله أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، ولهذا أرسل الله تعالى على أحد هذين الكافرين الصاعقة، والآخر أخذته غدة الطاعون في رقبته حتى هلك عدو الله.

   أن الطواغيت تقف حجر عثرة بين الشعوب وبين الدين الحق، وكم مرت حوادث في التاريخ تبين أنه إذا هلك هؤلاء الطواغيت ارتاحت الشعوب منهم لتتنفس الهواء النقي في رحاب الدين الحق..

هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

 


 


1  أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 5 / 319، وذكره ابن كثير في البداية 5 / 57، والهيثمي في المجمع 7 / 44، وعزاه للطبراني في الاوسط والكبير بنحوه.

2 البداية والنهاية (5/71).

3 سيرة ابن هشام (2/569)