حكم الوديعة

 

 

 

 

حكم الوديعـة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.

أما بعد:

أيها المؤمنون: لقد حثنا ديننا الإسلامي الحنيف على كل خير، وحذرنا من كل شر، ومما حثنا عليه من الخير أداء الأمانة، وإيصالها إلى أهلها، ومن ذلك حفظ الوديعة؛ وذلك لأن حفظ الوديعة وتأديتها إلى أهلها يشيع الأمان، والثقة بين الناس، فيثق المسلم بأخيه، فيأتمنه على ماله أو غيره دون خوف أو قلق، ويترتب على هذه الثقة شيوع الألفة والمحبة.

وقد أجاز الإسلام قبول الأمانة ما دام المؤتمن قادرا على حفظها، مقتدياً في ذلك برسول الله  ، فقد كان يقبل الأمانة حتى لقب بـ “الأمين”، بل بلغ به الأمر في حفظ الأمانة أنه رغم علمه أن قريشا تتربص به لتقتله -ليلة هجرته إلى المدينة- لم يكن ليتساهل في الودائع التي كانت عنده، فطلب من علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- وكان ما يزال صغيرا أن ينام في فراشه حتى يتمكن من رد هذه الودائع إلى أصحابها نيابة عنه..

بل إن الله -تبارك وتعالى- أمرنا بحفظ الودائع والأمانات وتأديتها إلى أهلها فقال تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا سورة النساء(58). قال ابن سعدي -رحمه الله-: “أمر الله عباده بأدائها -أي الأمانة- أي كاملة موفرة، لا منقوصة، ولا مبخوسة، ولا ممطولا بها، ويدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال والأسرار؛ والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله”1. وقال تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ سورة البقرة(283). وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ سورة الأنفال(27). وقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ سورة المعارج(32).. قال بعض المفسرين: “أي مراعون لها، ضابطون، حافظون، حريصون على القيام بها وتنفيذها، وهذا عام في جميع الأمانات التي هي حق لله، والتي هي حق للعباد، قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا سورة الأحزاب(72). فجميع ما أوجبه الله على عبده أمانة، على العبد حفظها بالقيام التام بها، وكذلك يدخل في ذلك أمانات الآدميين، كأمانات الأموال والأسرار ونحوهما، فعلى العبد مراعاة الأمرين، وأداء الأمانتين”2.

وقد جاءت السنة بالحث على حفظ الأمانة وأدائها إلى أهلها، ومن ذلك حفظ الودائع؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله  : (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)3.

وثبت عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله   يقول في خطبته عام حجة الوداع: (العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم)4.

وقد أجمع علماء كل عصر على جواز الإيداع والإستيداع، والعبرة تقتضيها، فإن حاجة الناس إليها ماسة، ذلك أنه يتعذر على جميعهم حفظ أموالهم بأنفسهم، بل يحتاجون إلى من يحفظها لهم.

والوديعة -عباد الله- يختلف حكمها باختلاف الأحوال، فقد يكون قبول الوديعة واجباً،وذلك إذا استأمن الإنسان عليها، وليس عند صاحب الوديعة أحد غيره يأتمنه عليها، فيجب عليه أن يقبلها منه..

وقد يكون قبول الوديعة مستحباً، وذلك فيما إذا طلب من الإنسان حفظ شيء من رجل هو يأنس بالمؤتمن، وعند المؤتمن قدرة على حفظه؛ لأنه من باب التعاون على البر والتقوى؛والله قد حثنا على ذلك فقال: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ سورة المائدة(2). ولما جاء في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- وفيه أن النبي   قال: (…والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)5. ولأن الناس في حاجة لذلك..

وقد يكون قبول الوديعة مكروهًا، وذلك إذا أحس الإنسان بعجز في شخصه عن حفظ الأمانة..

ويحرم على الإنسان قبول الوديعة إذا علم من نفسه أنه سيفسدها، وأنه ليس أهلاً لها..

ومن أحكام الوديعة: أنه يجب على كل مؤتمن الاهتمام بالأمانة، والمحافظة عليها، فلا يضعها في مكان يخشي منه ضياع الأمانة، وألا ينتفع بها حتى لا تتلف -إن كانت الوديعة شيئًا يتلف بالاستعمال-، وأن يردها إلى صاحبها متى طلب منه ذلك؛ لما سبق ذكره من الأدلة..

فإن ضاعت الوديعة أو تلفت لتقصير منه، رد قيمتها أو مثلها إلى صاحبها، وإن ضاعت أوتلفت من غير تقصير منه؛ كأن يشب حريق في المكان المحفوظة فيه فتحرق معه، فلا ضمان عليه؛ لقول الرسول (مَنْ أودع وديعة فلا ضمان عليه)6. وقوله: (فلا ضمان عليه). معناه أن لا يلزم رد قيمة الأمانة أو مثلها. ولأن يد المودَع يد أمان وليس يد ضمان.

ويشترط -عباد الله- في الوديعة أن يكون كل من المودع والمودع عنده مكلفا رشيدا، فلا يودع الصبي والمجنون، ولا يودع عندهما، ويجوز لكل من المودع والمودع عنده رد الوديعة متى شاء أحدهما، كما لا يجوز للمودع عنده الانتفاع بالوديعة على أي وجه من وجوه النفع إلا بإذن صاحبها ورضاه.

ومن أحكام الوديعة أنه: إذا مات المؤتمن وعنده وديعة لإنسان ما صارت دينا عليه،وعلى ورثته قضاؤه من ميراثه إن ترك ميراثاً، فإن لم يترك ميراثًا كان للحاكم ردها من مال الدولة؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي  : (أناأولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينًا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالًا فلورثته)7. وقوله: (فمن ترك دينًا فعلي قضاؤه) أي من مات وعليه دين، ولم يترك مالا يسد به ورثته هذا الدين، فأنا أرد هذا الدين عنه.

ومن أحكام الوديعة: أنها إذا تلفت عند المودع ولم يفرط, فإنه لا يضمنها, كما لو تلفت من بين ماله; لأنها أمانة, والأمين لا يضمن إذا لم يتعد؛ لما ثبت من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من أودع وديعة فلا ضمان عليه)8. ولأن المستودع يحفظها تبرعا, فلو ضمن, لامتنع الناس من قبول الودائع, فيترتب على ذلك الضرر بالناس وتعطيل المصلحة..

أما المعتدي على الوديعة أو المفرط في حفظها; فإنه يضمنها إذا تلفت; لأنه متلف لمال غيره. والله أعلم.

اللهم إنا نسألك حفظ الأمانات، وأدائها إلى أهلها يا رب العالمين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين..

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

من أحكام الوديعة أيضاً: أنه يجب على المودع حفظها في حرز مثلها كما يحفظ ماله; لأن الله -تعالى- أمر بأدائها في قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ولا يمكن أداؤها إلا بحفظها; ولأن المودع حينما قبل الوديعة; فقد التزم بحفظها, فيلزمه ما التزم به..

ومن أحكام الوديعة: أنه يجوز للمودع أن يدفع الوديعة إلى من يحفظ ماله عادة; كزوجته وعبده وخازنه وخادمه, وإن تلفت عند أحد من هؤلاء من غير تعد ولا تفريط لم يضمن; لأن له أن يتولى حفظها بنفسه أو من يقوم مقامه, وكذا لو دفعها إلى من يحفظ مال صاحبها برئ منها; لجريان العادة بذلك..

أما لو سلمها إلى أجنبي منه ومن صاحبها فتلفت ضمنها المودع; لأنه ليس له أن يودعها عند غيره من غير عذر, إلا إذا كان إيداعها عند الأجنبي لعذر اضطره إلى ذلك, كما لو حضره الموت أو أراد سفرا ويخاف عليها إذا أخذها معه; فلا حرج عليه في ذلك, ولا يضمن إذا تلفت.

ومن أحكام الوديعة: أنه إذا حصل خوف من المودَع على الوديعة, أو أراد المودع أن يسافر, فإنه يجب عليه رد الوديعة إلى صاحبها أو وكيله, فإن لم يجد صاحبها ولا وكيله; فإنه يحملها معه في السفر إذا كان ذلك أحفظ لها, فإن لم يكن السفر أحفظ لها;

دفعها إلى الحاكم; لأن الحاكم يقوم مقام صاحبها عند غيبته, فإن لم يمكن إيداعها عندالحاكم;

أودعها عند ثقة;

لأن النبي   لما أراد أن يهاجر; أودع الودائع التي كانت عنده لأم أيمن -رضي الله عنها-, وأمر علياً أن يردها إلى أهله9، وكذا من حضره الموت وعنده ودائع للناس, فإنه يجب عليه ردها إلى أصحابها, فإن لم يجدهم; أودعها عند الحاكم أو عند ثقة.

ومن أحكام الوديعة أنه إذا تعدى عليها فإنه يجب ضمانها إذا تلفت, كما لو أودع دابة فركبها لغير علفها أو سقيها, أو أودع ثوبا فلبسه لغير خوف من عري, وكما لو أودع دراهم في حرز فأخرجها من حرزها, أو كانت مشدودة فأزال الشد عنها, فإنه يضمن الوديعة إذا تلفت في هذه الحالات; لأنه قد تعدى بتصرفه هذا..

ومن أحكام الوديعة: أن الأصل في المودَع أنه أمين، فيقبل قوله إذا ادعى أنه ردها إلى صاحبها أو من يقوم مقامه, ويقبل قوله أيضاً إذا ادعى أنها تلفت من غير تفريطه مع يمينه; لأنه أمين; لأن الله -تعالى- سماها أمانة بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا. والأصل براءته إذا لم تقم قرينة على كذبه, وكذا لو ادعى تلفها بحادث ظاهر كالحريق; فإنه لا يقبل قوله إلا إذا أقام بينة على وجود ذلك الحادث..

ولو طلب منه صاحب الوديعة ردها إليه, فتأخر من غير عذر حتى تلفت; ضمنها; لأنه فعل محرما بإمساكها بعد طلب صاحبها له10.

أيها المسلمون: اعلموا أنه من لم يشكر الناس لا يشكر الله، وعلى هذا فينبغي لصاحب الوديعة إذا استرد الوديعة أن يشكر من أودع عنده على حفظه لها، وعلى المؤتمن ألا يكون فخورا بذلك، بل يكون متواضعا ليناً معه، وأن يشعر صاحب الأمانة أن ما فعله معروف لغيره، فهو طاعة لله واقتداء برسوله؛ ولأن الرسول   قد قال: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله)؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري11.

بل الأولى أن يكافئه، فإن لم يجد ما يكافئه به فليدعو له حتى يظن أنه قد كافأه؛لحديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله  : (… ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوا به فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه)12.

نسأل الله أن يعيننا على دوام شكره وذكره، وحسن عبادته. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.



1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، صـ(183). لابن سعدي. تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق. الناشر: مؤسسة الرسالة. الطبعة الأولى (1420هـ ).

2  المصدر السابق، صـ (547).

3 رواه أبو داود والترمذي ، وقال: “حديث حسن”، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم(240) وفي مشكاة المصابيح، رقم (2934)”حسن صحيح”.

4 أخرجه الترمذي وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم(4116) وفي مشكاة المصابيح، رقم(2956).

5  رواه مسلم.

6 رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، رقم(1945).

7 رواه البخاري.

8 رواه ابن ماجه، وقال الألباني: “حسن” كما في صحيح ابن ماجه، رقم(2401).

9 رواه البيهقي، وحسنه الألباني في الإرواء، رقم(1546) دون  أم أيمن.

10 راجع: المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني(7/280) وما بعدها. لابن قدامة. الناشر: دار الفكر – بيروت. الطبعة الأولى (1405هـ). والملخص الفقهي، صـ (465- 467) للفوزان. دار البصيرة- الإسكندرية. بتصرف..

11 رواه الترمذي، وقال: “حديث حسن صحيح” وقال الألباني: “صحيح” كما في صحيح الجامع، رقم (6541)..

12  رواه أبو داود، وقال الألباني: “صحيح”؛ كما في صحيح الجامع، رقم(6021 ). وفي صحيح أبي داود، رقم(1468).