المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام

المسيح ابن مريم عليه السلام

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:

فإن المسيح عيسى بن مريم – عليه السلام – نبي من أنبياء الله – عليهم السلام -، وهو من أولي العزم من الرسل، وسنقف مع شيء من حياته بما قصه القرآن الكريم من ذلك، أو جاءت به سنة النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه قد رويت حكايات عن أهل الكتاب، ونقلها المؤرخون المسلمون، وهي من الحكايات التي لا نجزم بصحتها ولا بكذبها، إنما الجزم والتيقن بما جاء في القرآن والسنة الصحيحة، فهو خبر يقين لا يقبل الشك والريب.

وسيتم التركيز على النقاط التالية:

1- ولادته – عليه السلام -.

2- كلامه في المهد.

3- دعوة قومه إلى الحق.

4- حياته مع الحواريين:

       إيمانهم به.

       نصرتهم لدين الله.

       طلب المائدة.

5- تكريم الله له بالمعجزات الظاهرة القاهرة.

6- رفعه إلى السماء.

7- كذب الناس عليه من بعده.

8- نزوله إلى الأرض علامة من علامات الساعة.

 

أولاً: ولادته – عليه السلام -:

ذكر الله – تبارك وتعالى – قصة ولادة عيسى – عليه السلام – بتفاصيلها في سورة مريم، حتى ذكرت الآيات الكريمة حال مريم قبل ولادة المسيح في قوله – تعالى-: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) سورة مريم.

هذه الآيات تبين أن الله – تعالى- أرسل إلى مريم رسولاً وهو جبريل لينفخ فيها من روح الله – تعالى- كما قال في آية أخرى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا.. (12) سورة التحريم، فحملت بعيسى – عليه السلام – من غير أب، بل بقدرة الله – تعالى- التي لا يقف دونها شيء، ولما وضعته حزنت وخافت وتمنت الموت؛ لأنها كانت تخشى من قومها أن يتهموها به، فهي عذراء بتول لم تتزوج، لكن الله – تعالى- ضمن لها سلامتها وحفظها – سبحانه وتعالى -.

فلما جاءت به قومها بعد أن وضعته استنكروا هذا الأمر، واحتاروا، واتهمها اليهود – عليهم اللعنة – بأنها وقعت في الفاحشة، لكن رعاية الله – تعالى- ترافقها وتسير معها إلى آخر الطريق الذي خطه لها، فقد ظهرت هنا المعجزة الإلهية الكبيرة وهي تكليم عيسى – عليه السلام – لهم، ورده على زعمهم الباطل وهو لا يزال في المهد صبياً، وهذا ما سيتم تناوله في الفقرة الآتية.

 

ثانياً: كلامه في المهد:

ذكر الله – تبارك وتعالى – أن عيسى – عليه السلام – كلم قومه في المهد صبياً؛ ليبرئ أمه الطاهرة التي عجزت عن إقناعهم، فأشارت إليه لينطق فنطق بقدرة الله كما قال – تعالى- بعدما ذكر كلام اليهود لمريم: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33).

إلى هنا اتضحت الصورة جلية عن ولادة المسيح – عليه السلام – كما بينها الله – تبارك وتعالى -، وقد ختمت الآيات الكريمة هذا المقطع القرآني العظيم من سورة مريم بقوله – تعالى-: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) ليبين للنصارى وغيرهم من الكفار أن هذه هي القصة الحقيقة لولادة عيسى – عليه السلام -، وأن كل الحكايات والأساطير التي يحكيها النصارى عن ذلك إنما هي اختلاق، فقد زعموا أن لله ولداً، فرد الله عليهم ذلك القول المشين الذي تكاد تتفطر منه السماوات، وتنشق الأرض، وتسقط الجبال من هوله وبشاعته، كما قال – تعالى- في آخر سورة مريم: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) سورة مريم.

 

ثالثاً: دعوة قومه إلى الحق:

ذكر الله – تبارك وتعالى – في سورة آل عمران قصة عيسى – عليه السلام – في دعوة قومه إلى الحق فقال الله – تبارك وتعالى -: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) سورة آل عمران، فاستجاب له الحواريون، وآمنوا به، وكفر به باقي القوم من اليهود وغيرهم.

 

رابعاً: حياته مع الحواريين:

لم يأت بيان حياة عيسى – عليه السلام – في شبابه بعد هذا الكلام الذي خاطب به قومه في المهد، لكن جاءت آيات تبين أن عيسى لما أصبح نبياً دعا قومه إلى عبادة الله وحده، واستجاب له من قومه جماعة سموا بالحواريين، وسنذكر هنا أموراً عن حياته معهم كما جاء في القرآن الكريم.

– إيمانهم به:

لما دعا عيسى – عليه السلام – قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له كفر به قومه ولم يطيعوه، إلا جماعة من قومه الذي سموا بالحواريين أي الأصحاب والأنصار، قال الله – تعالى- عن ذلك: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) سورة آل عمران.

 

– نصرتهم لدين الله:

ذكر الله – تعالى- في كتابه العظيم أن الحواريين نصروا دين الله – تعالى-، وقاموا مع عيسى – عليه السلام – في الدعوة إلى الله كما قال – تعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) سورة الصف، وكما في الآية السابقة: قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ.

 

– طلبهم للمائدة:

طلب الحواريون من عيسى – عليه السلام – أن يسأل الله – تعالى- إنزال مائدة عليهم ليأكلوا منها؛ ويزدادوا إيماناً إلى إيمانهم، كما قال الله – تعالى-: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) سورة المائدة، والمائدة هي الخوان أو السفرة عليها طعام قال ابن كثير: "وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى – عليه السلام – لما أجاب دعاءه بنزولها، فأنزلها الله آية ودلالة معجزة باهرة، وحجة قاطعة".1

 

خامساً: تأييد الله له بالمعجزات الظاهرة القاهرة:

أيد الله – تعالى- عيسى – عليه السلام – بمعجزات خارقة للعادة، إضافة إلى إنزال المائدة، فقد كان يبرئ الأكمه – الذي يولد أعمى -، والأبرص بإذن الله، ويحيي الموتى بإذن الله، وغير ذلك مما ذكره الله – تعالى- في هذه الآيات: وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(49) سورة آل عمران، وقال – تعالى-: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ سورة المائدة (110).

فهذه معجزات عظيمة امتن الله – تعالى- بها على نبيه الكريم عيسى – عليه السلام -.

 

سادساً: رفعه إلى السماء:

بعد أن تآمر اليهود الكفرة على عيسى – عليه السلام – وحاولوا قتله؛ رفعه الله إليه، وقتلوا شبيهه فظنوا أنهم قد قتلوا عيسى – عليه السلام -، فما زالت تلك عقيدتهم حتى جاء القرآن فجلاها، لكنهم بقوا على كفرهم وشركهم، فعيسى عند الله في السماء إلى يوم يأذن الله – تعالى- له بالنزول إلى الأرض، وقد تحدث القرآن الكريم عن رفع عيسى إلى السماء كما قال – تعالى-: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) سورة النساء.

 

سابعاً: كذب الناس عليه من بعده:

بعد أن رفع الله عيسى – عليه السلام – إلى السماء تفرق الناس فيه، ولم يثبت إلا الحواريون الذين آمنوا به، وبعد مئات السنين كاد اليهود لدين عيسى – عليه السلام – حتى حرفوا وأحدثوا فيه شركاً وبدعاً، وغالى فيه أتباعه بعد ذهاب الصالحين حتى زعموا أنه ابن الله، وعبدوه من دون الله – تعالى-، وعبدوا الصليب، وكان لليهود نصيب من ذلك التحريف والتخريب.

ويسأل اللهُ عيسى – عليه السلام – عن هذا الشرك هل أمرهم به هو أم هم أحدثوه؟ فكان جوابه ما ذكره الله في هذه الآيات: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118).

وقد اختلف العلماء هل هذا القول في الدنيا أم الآخرة فذكر السدي وتابعه الطبري على أنه في الدنيا بعد رفعه إلى السماء، وقال قتادة: في الآخرة، ورجحه ابن كثير. فالله أعلم.

ولقد شنع الله – تعالى- على من قال في عيسى غير ما هو حق، واعتبره أكبر جريمة في الأرض، تكاد السماوات تتفطر منه، وتخر الجبال، وتنشق الأرض فقال – تعالى-: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)  أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) سورة مريم، وقال – جل جلاله -: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)  سورة المائدة.

قال الطبري عن قول النصارى المفترين على الله الكذب: "وهذا قولٌ كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكية والنَّسطورية، كانوا فيما بلغنا يقولون: "الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم: أبًا والدًا غير مولود، وابنًا مولودًا غير والد، وزوجًا متتبَّعة بينهما"2.

 

ثامناً: نزوله إلى الأرض علامة من علامات الساعة الكبرى:

إن عيسى – عليه السلام – في السماء ينتظر أمر الله له بالنزول إلى الأرض ليحكم فيها بالعدل ثم يموت كما يموت البشر، وقد أشار القرآن الكريم إلى نزول عيسى – عليه السلام – بقوله – تعالى-: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا(159) سورة النساء.

عن الحسن البصري في قوله – تعالى -: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: قبل موت عيسى، والله إنه الآن حي عند الله، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون".3

وثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أن عيسى – عليه السلام – ينزل إلى الأرض، وهو من علامات الساعة الكبرى التي تدل على قرب يوم القيامة، فروى الإمام مسلم وغيره من أصحاب السنن والمسانيد عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: اطلع النبي – صلى الله عليه وسلم – علينا ونحن نتذاكر فقال: (ما تذاكرون؟) قالوا: نذكر الساعة، قال: (إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات) فذكر: (الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم – صلى الله عليه وسلم -، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم)، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها) ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً.

وتكون نهاية المسيح الدجال على يد عيسى – عليه السلام -، فإنه إذا رآه يذوب كما يذوب الملح في الماء؛ كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصادفوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث لا يفتنون أبداً، فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم! فيخرجون – وذلك باطل – فإذا جاءوا الشام خرج، فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم – صلى الله عليه وسلم – فأمهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته).

هذا مقال مختصر عن عيسى بن مريم – عليه السلام -، فهو النبي الكريم الذي اختلف الناس فيه كثيراً، وقد جاء الإسلام ليوضح للناس ما اختلفوا فيه، وليرد ما افتروا على الله وعلى رسوله عيسى من الكذب، ويبين لهم الحقيقة أتم بيان، نسأل الله – تعالى- أن يتوفانا مسلمين، وأن يلحقنا بالصالحين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 تفسير ابن كثير – (ج 3 / ص 225).

2 تفسير الطبري – (ج 10 / ص 482).

3 تفسير ابن كثير (2/453).