مسجد قرطبة

مسجد قرطبة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:

فإن مما يعيد الأمل للأمة في استعادة مجدها، واسترداد كرامتها، وحسن تفاؤلها؛ هو نظرها في تاريخها المشرق، وصفحتها الناصعة، ويدها البيضاء، ذلك التأريخ المتجذر في تراثها وحضارتها، والمقروء على جدرانها، والمطل من شرفات قصورها، المسطور في جبينها بأقلام رجالها وشجعانها، وأبطالها ومجاهديها؛ الذين صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً1 فكأني بحاديهم يحدو، وشاديهم يشدو، بعد أن فتحوا البلاد والأمصار، وعبروا القارات والأقطار، وهو يرتجز قائلاً:

سل الرماح العوالي عن معالينـا               واستشهد البيـض هل خاب الرجا فينــا

لمـا سعينا فمارقت عزائـمنـــــــــــــا               عمـا نروم ولا خابــت مســـــــــــــــــــــــــــاعـينـــا

قوم إذا استخصموا كانوا فراعنة              يوماً وإن حكمــــوا كــــــــــــــــــــــــانوا موازينــا

تدرعوا العقل جلباباً فإن حميت              نــــــــــــــــــار الوغـى خلتـهم فيـها مجـــانينا

وإن من أبرز معالم تاريخنا اتساع رقعة فتوحاتنا الإسلامية إلى أرجاء المعمورة تحقيقاً لقول نبينا – صلى الله عليه وسلم -: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار))2، وأكبر شاهد على هذا الاتساع ما خلفه المسلمون في تلك البلاد من بصمات تاريخية، وأمجاد حضارية، مختومة بختم الرسالة المحمدية، ومطبوعة بطابع توحيد رب البرية، مما يدل على أنهم كانوا ملوكاً للبشرية، وسادة للإنسانية حتى قال قائلهم: كنا ملوكاً على الدنيا وكان لنا                    ملك عظيم وكنا سادة الأمم

كسرى وقيصر والخاقان دان لنا                  وأمرنا كان بين السيف والقلم

ومن أبرز ما خلفه المسلمون من تراث حضاري، ورصيد تاريخي؛ ذلك المسجد الحزين؛ مسجد قرطبة الذي لا زال إلى اليوم شاهداً على حضارة المسلمين المعمارية والعلمية … وغيرها في جوانب شتى من حياة الأمة، ولأهمية هذا المسجد في تاريخ آبائنا وأجدادنا؛ فلا بد من إطلالة تاريخية حول هذا الصرح الحضاري، والمعلم الإسلامي. بداية الإنشاء:

بدأ إنشاؤه في عهد الخليفة الأموي الأندلسي عبد الرحمن الداخل بمدينة قرطبة بالأندلس (أسبانيا) الإسلامية سنة 170هـ – 785م،  ثم تم بناء هذا المسجد خلال قرنين ونصف قرن على وجه التقريب، وهو قمة من قمم الفن المعماري العالمي على مر العصور، وهو أضخم بيت للصلاة بني في الإسلام، ولما زرع الناس شجرة التاريخ في الصحن سمي بصحن التاريخ، وقد تحول إلى كاتدرائية عندما استولى الأسبان على قرطبة سنة 1236م، وكان لقرون طويلة أعظم مركز للعلم في أوربا، وكان دار قضاء بقرطبة، وجدد بناؤه عدة مرات. تاريخ الجامع: لقد تم بناء هذا الجامع خلال قرنين ونصف قرن تقريباً، ويرجع تأسيس المسجد إلى سنة 92 هـ عندما اتخذ بنو أمية قرطبة حاضرة لملكهم، حيث شاطر المسلمون نصارى قرطبة كنيستهم العظمى، فبنوا في شطرهم مسجداً، وبقي الشطر الآخر للروم، وحينما ازدحمت المدينة بالمسلمين وجيوشهم اشترى عبد الرحمن الداخل – صقر قريش – شطر الكنيسة العائد للروم مقابل أن يُعيد بناء ما تـمّ هدمه من كنائسهم وقت الفتح، وقد أمر بإنشائه عبد الرحمن الداخل 785 ميلادي، وكانت مساحته آنذاك 4875 متراً مربعاً، وكان المسجد قديماً يُسمى بجامع الحضرة  أي جامع الخليفة، أمّا اليوم فيُسمى بمسجد الكاتدرائية بعد أن حوله الأسبان إلى كاتدرائية مسيحية، وأهم ما يعطي هذا الجامع الفريد مكانةً في تاريخ الفن المعماري؛ أن كل الإضافات والتعديلات وأعمال الزينة؛ كانت تسير في اتجاه واحد، وعلى وتيرة واحدة؛ بحيث يتسق مع شكله الأساسي. مميزات الجامع:

كان الشكل الأصلي لمسجد عبد الرحمن في عام 170 ﻫ يتألف من حرم عرضه 73.5متر، وعمقه 36.8متر، مقسم إلى 11 رواقاً بواسطة10 صفوف من الأقواس، يضم كل منها 12 قوس ترتكز على أعمدة رخامية، وتمتد عمودياً على الجدار الخلفي، وهذه الصفوف تتألف من طبقتين من الأقواس السفلية منها على شكل حدوة الفرس، والعلوية تنقص قليلاً عن نصف دائرة، وهي تحمل سقفاً منبسطاً يرتفع مقدار  9.8 متر عن الأرضية، وفوقهم 11 سقفاً جمالونياً متوازياً، بينها أقنية عميقة مبطنة بالرصاص، والحرم ينفتح على الصحن بواسطة 11 قوس حدوي، ترتكز على عضائد على شكل T، والصحن عرضه 73.21 متر وعمقه 60.7متر، ويوجد له باب غربي، وباب شمالي على المحور الشمالي الجنوبي، كما له على الأرجح باب شرقي متوافق مع الأول، وكان للحرم باب واحد يعرف اليوم باسم – بوير تادي سان استبيان -، وللحرم أيضاً 3 دعائم للشرق وللغرب تبرز 1.5 متر، ودعامتان ركنيتان، وعلى الأرجح 10 في الجانب الجنوبي لتتحمل ضغط صفوف الأقواس،  وسمك الجدران قدره 1.14 متر، والصحن لم يكن محاطاً بأروقة، والكتابات التي تزين واجهة المحراب يصعب فهمها، ومما كتب الآية السادسة من سوره السجدة: ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم، و مما كتب أيضا: موقف الإمام المستنصر بالله عبد الله بن الحكم، كما كتبت من سوره الحشر هو الله الذي لا اله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون، ومن أعمال عبد الله بن الحكم في جامع قرطبة مد قنوات المياه إلى السقايات، والميضآت التى أحدثها، وقد أوصل الماء إلى المسجد عبر قناة مدها من سفح جبل العروس قرب قرطبة، كما أنشا عبد الله بن الحكم عدداً من المقاصير منها مقصورة – دار الصدفة – غربي الجامع، وقد جعلها مركزاً لتوزيع الصدقات، ومقصورة أخرى أمام الباب الغربي كان الفقراء يتخذونها مسكناً لهم.

التوسعة والإعمار: مرّ العمل بتوسعة المسجد، وإدخال تعديلات عليه بمراحل متعدّدة منها:

في سنة 139هـ جدّده الأمير هشام بن عبد الرحمن.

وفي سنة 176 جدّد الأمير عبد الرحمن بن الحاكم بناء قبته التي بناها جدّه عبد الرحمن بن معاوية، أما الأمير محمَّد بن عبد الرحمن فقد جدّده في سنة 207هـ.

وفي سنة 340هـ أمر الأمير عبد الرحمن الناصر – المستنصر باللّه – بهدم منارته القديمة، وبناء منارة جديدة بديعة الصنع بدلاً منها، كما أمر ببناء منبر بديع للمسجد، وثلاث مقصورات وهي مقصورة دار الصدقة، ومقصورة الوعاظ، ومقصورة البائسين، كما أقام رصيفاً على امتداد الجامع ليكون متنـزهاً لأهالي قرطبة أسماه الرصيف المستنصري. وفي سنة 355هـ اهتم به وجدّده الأمير هشام بن الحكم – المؤيد باللّه -. أحداث مرت بالجامع:

  • تعرّض المسجد في سنة 400 هجرية للنهب بعد أن ترك الناس قرطبة نتيجة القتال الذي نشب بين المهدي وبين سليمان بن الحكم.
  • اجتاح قساوسة قرطبة سنة 633هجرية 1326 ميلادي ما في قرطبة من مساجد وقصور، وتعرّضوا للمسجد وخربوه.

قبة الجامع:

أمّا القبة فتعتبر إحدى آيات الفن المعماري، وهي على هيئة نجمة مُثمّنة الزّوايا، تحتوي في أعلاها على صَدَفَة، أمّا عناصر زخرفتها فهي نباتية محوّرة عن الطّبيعة ذات ألوان ذهبية ٍفريدةً من نوعها، وهي آية في الإبداع الهندسي الخالد لدى المهندس المسلم، وأول من حدد القبلة وخط المسجد هو التابعي حنش الصنعاني، يوجد في المسجد 1400 عمود من أقواس الدّائرة، ويتدلّى من السّقف المصنوع من خشب الأرز 4700 مصباح من الفضة، لتضيء تسعة عشر رواقاً طولياً، تتقاطع مع ثلاثة وثلاثين رواقاً عرضياً، وأعمده المسجد تبدو كالنخيل؛ لأن عبد الرحمن الداخل لما أحب الشام ونخيله؛ صور هذا الحب في أعمدة جامعه الأعظم، كما ظل هذا الجامع في أوروبا لقرون طويلة أحد منائر العلم ينافس الأزهر والقيروان، وتخرج منه ثلة من أكابر علماء هذه الأمة كابن حزم والقرطبي وابن عبد البر. اللهم أعد للأمة مجدها وعزها وكرامتها وسؤددها، وأقر أعيننا بنصرالاسلام والمسلمين. والحمد لله رب العالمين.


1– الأحزاب من الآية 23.

2– رواه أحمد برقم (16509)، وقال الألباني: صحيح. السلسلة الصحيحة ( ج1ص32).