الإمساك أثناء أذان الفجر

 

الإمساك أثناء أذان الفجر

 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين, وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:

فالحديث هنا سيكون حول كيفية الجمع بين وجوب الإمساك عن المفطرات لمن نوى الصيام بطلوع الفجر امتثالاً لقول الله تعالى: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (187) سورة البقرة, وبين العمل بالحديث الذي صحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمْ النِّدَاءَ أي: أذان الفجر وَالإِنَاءُ عَلَى يَدِهِ فَلا يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ)1.

وللإجابة عن هذا التساؤل نقول: بين أهل العلم أنه يلزم الصائم الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق، إلى غروب الشمس, والعبرة بطلوع الفجر لا بالأذان, قال الله تعالى: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (187) سورة البقرة, فمن تيقن طلوع الفجر الصادق لزمه الإمساك، وإن كان في فمه طعام لزمه أن يلفظه، فإن لم يفعل فسد صومه.

وأما من لم يتيقن طلوع الفجر، فله أن يأكل حتى يتيقن, وكذا لو علم أن المؤذن يؤذن قبل الوقت، أو شك أنه يؤذن في الوقت أو قبله، فله أن يأكل حتى يتيقن، والأولى له أن يُمسك بمجرد سماع الأذان, وأما الحديث المذكور، فحمله العلماء على أن المؤذن كان يؤذن قبل طلوع الفجر.

قال النووي -رحمه الله-: "ذكرنا أن من طلع الفجر وفي فيه أي: في فمه طعام فليلفظه ويتم صومه, فإن ابتلعه بعد علمه بالفجر بطل صومه, وهذا لا خلاف فيه, ودليله حديث ابن عمر وعائشة -رضي الله عنهم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ بِلالا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ)2. رواه البخاري ومسلم وفي الصحيح أحاديث بمعناه.

وأما حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمْ النِّدَاءَ وَالإِنَاءُ عَلَى يَدِهِ فَلا يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ) وفي رواية: "وَكَانَ الْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ إِذَا بَزَغَ الْفَجْرُ"3, فروى الحاكم أبو عبد الله الرواية الأولى4, وقال: هذا صحيح على شرط مسلم, ورواهما البيهقي5، ثم قال: وهذا إن صح محمول عند عوام أهل العلم على أنه -صلى الله عليه وسلم- علم أنه ينادي قبل طلوع الفجر, بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر.

قال: وقوله: "إِذَا بَزَغَ الْفَجْرُ" يحتمل أن يكون من كلام من دون أبي هريرة، أو يكون خبراً عن الأذان الثاني, ويكون قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمْ النِّدَاءَ وَالإِنَاءُ عَلَى يَدِهِ) خبراً عن النداء الأول، ليكون موافقاً لحديث ابن عمر وعائشة -رضي الله عنهم-  قال: وعلى هذا تتفق الأخبار6.

وذكر ابن القيم -رحمه الله- في تهذيب السنن أن بعض السلف أخذ بظاهر الحديث المذكور وأجازوا الأكل والشرب بعد سماع أذان الفجر، ثم قال: "وذهب الجمهور إلى امتناع السحور بطلوع الفجر, وهو قول الأئمة الأربعة, وعامة فقهاء الأمصار, وروى معناه عن عمر وابن عباس, واحتج الأولون بقول النبي -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّن اِبْن أُمّ مَكْتُوم), ولم يكن يؤذن إلا بعد طلوع الفجر" كذا في البخاري, وفي بعض الروايات: "وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْتَ, أَصْبَحْتَ"7, قالوا وإن النهار إنما هو من طلوع الشمس.

واحتج الجمهور بقوله تعالى: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (187) سورة البقرة, وبقول النبي -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّن اِبْن أُمّ مَكْتُوم)8, وَبِقَوْلِهِ: (الْفَجْر فَجْرَانِ, فَأَمَّا الأَوَّل فَإِنَّهُ لا يُحَرِّم الطَّعَام، وَلا يُحِلّ الصَّلاة, وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنَّهُ يُحَرِّم الطَّعَام، وَيُحِلّ الصَّلاة)9. انتهى"10.

وقد وردت آثار عن بعض السلف، تدل على إباحة الأكل للصائم، حتى يتيقن طلوع الفجر، وأورد ابن حزم -رحمه الله- منها جملة كثيرة، ومنها: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يقول: "إذا شك الرجلان في الفجر فليأكلا حتى يستيقنا", وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أحل الله الشراب ما شككت; يعني في الفجر", وعن مكحول قال: رأيت ابن عمر أخذ دلواً من زمزم وقال لرجلين: أطلع الفجر؟ قال أحدهما: قد طلع, وقال الآخر: لا; فشرب ابن عمر, وقال ابن حزم معلقاً على الحديث المذكور وجملة من الآثار المشابهة: "هذا كله على أنه لم يكن يتبين لهم الفجر بعد; فبهذا تتفق السنن مع القرآن"11.

ولاشك أن أكثر المؤذنين اليوم يعتمدون على الساعات والتقاويم، لا على رؤية الفجر، وهذا لا يعتبر يقيناً في أن الفجر قد طلع، فمن أكل حينئذٍ، فصومه صحيح، لأنه لم يتيقن طلوع الفجر، والأولى والأحوط أن يمسك عن الأكل.

وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- ما نصه: "ما الحكم الشرعي في صيام من سمع أذان الفجر واستمر في الأكل والشرب؟

فأجاب -رحمه الله-: "الواجب على المؤمن أن يمسك عن المفطرات من الأكل والشرب وغيرهما إذا تبين له طلوع الفجر، وكان الصوم فريضة كرمضان وكصوم النذر والكفارات؛ لقول الله عز وجل-: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ (187) سورة البقرة, فإذا سمع الأذان وعلم أنه يؤذن على الفجر وجب عليه الإمساك, فإن كان المؤذن يؤذن قبل طلوع الفجر، لم يجب عليه الإمساك، وجاز له الأكل والشرب حتى يتبين له الفجر, فإن كان لا يعلم حال المؤذن هل أذن قبل الفجر أو بعد الفجر، فإن الأولى والأحوط له أن يمسك إذا سمع الأذان، ولا يضره لو شرب أو أكل شيئاً حين الأذان لأنه لم يعلم بطلوع الفجر.

ومعلوم أن من كان داخل المدن التي فيها الأنوار الكهربائية لا يستطيع أن يعلم طلوع الفجر بعينه وقت طلوع الفجر، ولكن عليه أن يحتاط بالعمل بالأذان والتقويمات التي تحدد طلوع الفجر بالساعة والدقيقة، عملاً بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ)12, وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ)13,14.

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ما نصه: "قلتم حفظكم الله إنه يجب الإمساك بمجرد سماع المؤذن، ويحدث ومن عدة سنوات أنهم لا يمسكون عن الطعام حتى نهاية الأذان، فما حكم عملهم هذا؟

فأجاب فضيلته بقوله: الأذان لصلاة الفجر إما أن يكون بعد طلوع الفجر أو قبله، فإن كان بعد طلوع الفجر فإنه يجب على الإنسان أن يمسك بمجرد سماع النداء؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إنَّ بِلالاً كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ لا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ)15, فإذا كنت تعلم أن هذا المؤذن لا يؤذن إلا إذا طلع الفجر فأمسك بمجرد أذانه، أما إذا كان المؤذن يؤذن بناء على ما يعرف من التوقيت، أو بناء على ساعته فإن الأمر في هذا أهون.

وبناء على هذا نقول لهذا السائل: إن ما مضى لا يلزمكم قضاؤه، لأنكم لم تتيقنوا أنكم أكلتم بعد طلوع الفجر، لكن في المستقبل ينبغي للإنسان أن يحتاط لنفسه، فإذا سمع المؤذن فليمسك"16.

وقال الشيخ ابن عثيمين أيضاً -رحمه الله- منبهاً على ما يقال عن التقويم وعدم دقته: "لأن بعض الناس الآن يشككون في التقويم الموجود بين أيدي الناس، يقولون: إنه متقدم على طلوع الفجر، وقد خرجنا إلى البر وليس حولنا أنوار، ورأينا الفجر يتأخر، حتى بالغ بعضهم وقال: يتأخر ثلث ساعة, لكن الظاهر أن هذا مبالغة لا تصح، والذي نراه أن التقويم الذي بين أيدي الناس الآن فيه تقديم خمس دقائق في الفجر خاصة، يعني لو أكلت وهو يؤذن على التقويم فلا حرج، إلا إذا كان المؤذن يحتاط ويتأخر، فبعض المؤذنين جزاهم الله خيراً يحتاطون ولا يؤذنون إلا بعد خمس دقائق من التوقيت الموجود الآن، وبعض جهَّال المؤذنين يتقدمون في أذان الفجر، زعماً منهم أن هذا أحوط للصوم، لكنهم ينسون أنهم يهملون ما هو أشد من الصوم وهو صلاة الفجر، ربما يصلي أحد قبل الوقت بناء على أذانهم، والإنسان إذا صلى قبل الوقت ولو بتكبيرة الإحرام، ما صحت صلاته.."17.18.

وفق الله الجميع لما يحب ويرضى, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين.


 


1 رواه أبو داود (2350) وأحمد (10637) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (607).

2 رواه البخاري (597) ومسلم(1092).

3 رواية الإمام أحمد (10638).

4 المستدرك على الصحيحين (642).

5 سنن البيهقي الكبرى (7809).

6 المجموع للنووي (ج 6/  ص 311-312).

7 رواية البخاري (592).

8  سبق تخريجه.

9 رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سُنَنه (1990) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (693).

  10حاشية ابن القيم (ج 6/ ص 341).

11 المحلى لابن حزم (ج 6/ ص 232-233).

12 رواه الترمذي (2518) والنسائي (5711) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3194).

13 رواه البخاري (52) ومسلم (1599).

14 نقلاً عن "فتاوى رمضان" جمع: أشرف عبد المقصود (ص 201).

15 سبق تخريجه.

16 نقلاً عن "فتاوى رمضان" (ص 204).

17 من مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله (ج 19 سؤال رقم 772) . والله أعلم.

18 مستفاد بتصرف من موقع الإسلام سؤال وجواب.