إنهم يراقبونك

إنهم يرقبونك

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومجتباه، أما بعد:

لأي إنسان أن يعيش على ظهر هذه البسيطة دون أن ترقبه الأبصار، أو تلاحقه الأعين، أو يكترث به الناس، لكن  متى ما تبوأ منزلة يرفع الناس إليه أبصارهم، ويجعلونه محط أرشادهم؛ فلا شك والحالة هذه أنه بحاجة أن يلاحظ تصرفاته، ويراقب سلوكياته، فكل حركة لها حسبان عند الناس لاسيما إذا كانت هذه الشخصية الرفيعة أنت أيها الإمام، يا من استشرفك الناس، واختاروك لإمامتهم، وعدُّوك القدوة يتأسون بك، وربما لم يصدروا في أمر إلا عن رأيك، وأصبحت شخصاً يأخذ الناس عنه دينهم، ويقدمونه في أعظم شعيرة فرضت عليهم.

أيها الإمام:

إن الله لما اصطفى نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – للرسالة، واجتباه للنبوة؛ خلق فيه المثل العليا، والخصال العظمى؛ ليكون أهلاً لحمل رسالته، وتبليغ دينه وشريعته، لأنه سيخرج للعالمين، ودعوته للناس أجمعين كما قال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ1 فلا بد أن يتحلى بسمو الأخلاق، وكريم الطباع، ونقاء السريرة؛ ما يجعله محل قبول عند من بعث وأرسل إليهم، وقد كان كذلك – صلى الله عليه وسلم -، حتى أن الله حث عباده في كتابه أن يجعلوه القدوة لهم في حياتهم، والأسوة يقتفون أثره في جميع تعاملاتهم كما قال سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ2، فساروا على منواله، واحتذوا سلوكه وفعاله، وقبلوا كل شيء جاء به؛ لما رواه فيه من مؤهلات الإمامة للأمة، وحسن العشرة، وعظم السجايا، وصدق الكلام، والأدب الجم حتى لم يكن تفارق عيونهم سواده كلما حل وارتحل، وأقام وسافر، عجباً من تلك الروح الربانية، ولهفاً للتلقي من تلك النفس العظيمة، وهو يعلم أنهم ينقلون عنه كل ما أخلده وأظهره، وأضمره لو كان أخرجه، فكان خير رجل عرفته البشرية، وأكرم إنسان وطيء الكرة الأرضية، محلاً للقدوة، أهلاً للأسوة.

أيها المبارك:

إنه لأمر يندى له الجبين، ويأسى له القلب؛ يوم تسمع عن أئمة للمساجد أصبحوا مرمى كلام الناس، وفكاهة مجالسهم، ومحلاً لتطاول بعض العوام من مرضى القلوب بسبب سلوك مشين، أو تصرف أهوج، أو تعامل مخجل، أو تصرف مريب، إنهم أئمة غابت من قلوبهم معاني الرقابة الإلهية، وضعفت في نفوسهم مشاعل التقى الربانية، ولم يستشعروا عظم الأمانة التي حملهم الله إياه، ولا شرف المكانة التي بوأهم الناس لها.

فتجده إماماً ولكن لا يصدق في حديثه، ولا يفي بمواعيده، وإذا استدان لم يوفِ الناس حقوقهم، ويتعامل مع الناس في قضايا البيوع بشيء من الدجل والغش، ويشتكي والداه عقوقه و… إلخ.

فبالله .. أي مقام ارتأيته لنفسك حتى أنزلت من قدرك، ووضعت من مكانتك.

بالله!! كيف هانت هذه الأمور على قلبك وأنت الذي ربما حذرت الناس منها، وخوفتهم من مقارفتها، أغفلت عن حديث حبيبك محمد – صلى الله عليه وسلم – يوم قال: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر!! فيقول: بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه))3.

أيها الإمام:

إن العامة لو وجدوا عندك سيئة واحدة، وتسعة وتسعين حسنة؛ غلبوا السيئة على تلك الحسنات، فما بالك إذا بالغت وزايدت فيها، ووصلت حد الثمالة، وأصبحت غارقاً في المذمة، إذاً لشنعوا عليك أيما تشنيع، وكالوا عليك التهم، وألصقوا بك النقائص، حتى تتمنى باطن الأرض ولا أن تعيش يلوكك الناس بألسنتهم، ويتندرون بك في مجالسهم.

لا بد أن تتذكر:

أنك محل قدوة يرفع الناس إليك أبصارهم، وأنت بحاجة إلى أن تؤثر في قلوبهم، لهذا فإن من أبلغ وسائل التأثير على الناس هو القدوة الحسنة؛ فالنفوس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه، ولا ينتفع به؛ ولأجل هذه النفرة قال شعيب – عليه السلام – لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ4، فكم من إمام أثر على الناس بعلمه وبحاله من دون أن يعظهم ويذكرهم، فسيرته تستنطق الأفواه بالتسبيح، وكم من أمم دخلت في دين الإسلام بسبب القدوة الصالحة، والتاريخ خيرُ شاهد، وقد قال بعضهم: ليس الحكيم الذي يلقنك الحكمة تلقيناً، وإنما الحكيم الذي يعمل العمل فتقتدي به.

قال عدي:

ونفسك فاحفظها من الغي والردى                   متى تغوها تُغوِ الذي بك يقتدي

فلا يمكن بحال أن تكون مقبولاً عند شخص رضيك أن تأمه، ويقتدي بك في الصلاة، وتعظه وتنهاه عن الغيبة أو النميمة أو الكذب مثلاً؛ وأنت واقع فيها، منغمس في بحرها.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -: "ومن الأخلاق والأوصاف التي ينبغي بل يجب أن يكون عليها الداعية العمل بدعوته، وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه، ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه، أو ينهى عن شيء ثم يرتكبه، هذه حال الخاسرين، نعوذ بالله من ذلك، أما المؤمنون الرابحون فهم دعاة الحق، يعملون به، وينشطون فيه، ويسارعون إليه، ويبتعدون عما ينهون عنه، قال الله – جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ5.6

هكذا كن:

صالحاً في نفسك بأن تكون تقيّاً، ورعاً، زاهداً، صادقاً، مراقباً، مؤدياً الفرائض والأركان والنوافل، متتبعاً السنة، تالياً للقرآن، ممتثلاً معنى العبودية لله – تعالى -، مصاحباً للأخيار، مجتنباً الأشرار.

وعليك أن تمتثل الآداب الشرعية والأخلاق الإسلامية من إفشاء السلام، وإطعام الطعام، وعيادة المريض، وشهود الجنازة، وأن تدل على الخير، وترشد إليه، وأن تتعاهد النصح للناس، وأن تيسر ولا تعسر.

وعلى الإمام أن يعتزل شرور الناس فمن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وأن يحسن الظن، ولا يتجسس، ولا يغتاب، ولا ينم، ولا يكذب، ولا يظلم، ولا يبهت، ولا يسخر من أحد، ويجتنب قول الزور، ولا يغش، ولا يخدع، ولا يغدر، ولا يخلف في الوعد، وليحذر من الجدال والمراء والمزاح الذي فيه كذب أو أذية لأحد، وعليه أن يتواضع ولا يتكبر، ويحلم ويعفو، وأن يجل الكبير، ويعطف على الصغير، ويسعى بالصلح بين المسلمين، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويتجنب ما يقدح في المروءة ولو كان من المباحات.

وعليه أن يتعاهد نظافته ومظهره، فلا يجعل الناس يروا أو يشموا منه ما ينفرهم عنه، ويتعاهد السنن التي دعت إليها القطرة، وأن يكون طاهر الفم على الدوام فيستعمل السواك، أو ما يقوم مقامه.

وعليه أن يتأدب بآداب الإسلام مع الآخرين فيحسن إلى جيرانه، ويكرم ضيفه، وينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً، وإذا دخل مجلساً فليظهر التواضع الذي عليه المسلم فيجلس حيث ينتهي به المجلس، وإذا أكل أو شرب فيلتزم آداب الأكل، وهكذا يتحري كل فضيلة دعى إليها ديننا، وخصلة حث عليها نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – أعظم وأزكى إمام عرفه على وجه الأرض.

لا تنسى:

أن حسن صلتك بربك، ودوام ضراعتك له، وكثرة افتقارك وانطراحك على عتبات ألوهيته؛ عامل ناجع في تزكية النفس، وتربية الروح، وترويض القلب لمراضي الله.

فما أجمل أن تجعل الوقار دثارك، وخلق الحياء من الله قبل الناس شعارك، وتسحر بدماثة أخلاقك، وطيب سريرتك وعلانيتك القلوب قبل العيون.

ما أعظم أن يبقى نور الإيمان يبدو على كل مظاهرك، وبروق الخير تلوح في جميع خلجاتك، عند الحق واقفاً، ولأمر الله أخذاً.

تعلوك مهابة الطاعة، وتوقفك معاني الرقابة، تنبعث من أسارير وجهك ملامح الرشاد، وتجري في عروق جسدك مروءة أشرف العباد محمد – صلى الله عليه وسلم -.

وأخيراً: لتعلم أنهم يرقبونك فبأدبك الجم، وخلقك الرفيع، وتعاملك الحسن، وعفتك عن الحرام، وبعدك عن مواطن الريب والشبهات؛ تجلك القلوب وإن لم تنطق الأفواه، وتستعطر بحمدك الألسن وإن لم تبت الشفاه.

فيأيها المبارك: عرفت الطريق فالزم، وعش معالمه تغنم.

والحمد لله رب العالمين.


 


1 الأنبياء  107.

2 الأحزاب (21).

3 رواه مسلم برقم (5305).

4 هود (88).

5 الصف (2-3).

6 من أقوال الشيخ ابن باز في الدعوة ص 65- 66.