احذر الفتن !

احذر الفتن

احذر الفتن !

كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه! وولد لا يعذره! وجار لا يأمنه! وصاحب لا ينصحه! وشريك لا ينصفه! وعدو لا ينام عن معاداته! ونفس أمارة بالسوء! ودنيا متزينة! وهوى مردٍ! وشهوة غالبة له! وغضب قاهر! وشيطان مزين! وضعف مستولٍ عليه.. فإن تولاه الله وجذبه إليه انبهرت له هذه كلها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة..!

لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة، والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الإكتفاء بهما، وعدلوا إلى الإستحسان والقياس، وتقليد الشيوخ- في الحكم بغير شرع الله… عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم ومحق في عقولهم،وعمتهم هذه الأمور، وغلبت عليهم، حتى ربى فيها الصغير، وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكراً ،  فجاءتهم دولة أخرى، قامت فيها البدع مقام السنن ، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل.. فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور، وأهلها هم المشار إليهم، وكانت قبل ذلك لأضدادها، وكان أهلها هم المشار إليهم..

فيا أخي:  إذا رأيت دولة هذه الأمور قد أقبلت، وراياتها قد نصبت، وجيوشها قد ركبت.. فبطن  الأرض – والله – خير من ظهرها، وقلل الجبال خير من السهول، ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس!

يا الله عفوك… اقشعرت الأرض.. وأظلمت السماء.. وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة.. وذهبت البركات.. وقلت الخيرات… وهزلت الوحوش.. وانكدرت الحياة من فسق الظلمة.. وبكى ضوء النهار، وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش!! وغلبة المنكرات والقبائح! وهذا – والله – منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه.. فاعزلوا عن طريق السبيل بتوبة نصوح، مادامت التوبة ممكنة، وبابها مفتوح، وإلا كأنك بالباب وقد أطبق، وبالرهن وقد أغلق، وبالجناح وقد أعلق  (( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ))  { الشعراء227 .

فيا من ضيع عمره في الأماني  .. اشترِ نفسك اليوم فإن السوق قائمة، والثمن موجود، والبضائع رخيصة، وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لاتصل فيها إلى قليل ولا كثير.. ذلك يوم التغابن، يوم يعض الظالم على يديه:

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى                        وأبصرت يوم الحشر من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله                          وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

تزينت الدنيا لعلي، فقال: أنت طالق ثلاثاً، لا رجعة لي فيك! وكانت تكفيه واحدة للسنة؛ لكنه جمع الثلاث لئلا يتصور للهوى جواز المراجعة!! ودينه الصحيح، وطبعه السليم يأنفان المحلل1.. كيف وهو أحد رواة حديث (لعن الله المحلل).2

ويا مسكين … احذر أن يبعدك الله عنه بسبب المعاصي فقد لعن إبليس وأهبط من منزل العز بترك سجدة.. فما نفعه بعدها رجوع ولا نجدة.. وأخرج آدم من الجنة بلقمة تناولها.. فيا صريع الهوى كم من لقم أكلتها من ورشوة، وظلم، وضريبة، وربا، .. ثم مع كل هذا لا تخاف أن يطردك  الله من رحمته!! وأمر الله بقتل الزاني أشنع القتلات، بإيلاج قدر الأنملة فيما لا يحل، وأمر بإيساع الظهر سياطاً بكلمة قذف أو بقطرة من سكر، وأبان عضواً من أعضائك بثلاثة دراهم.. فلا تأمنه أن يحبسك في النار بواحدةٌ من معاصيه , قال عليه الصلاة والسلام:( دخلت امرأة النار في هرة3 وقال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب))4.وقال:  ((وإن الرجل ليعمل بطاعة الله ستين سنة، فإذا كان عند الموت جار في الوصية فيختم له بسوء عمله فيدخله النار))5.

كيف فلاحك بين إيمان ناقص… وأمل زائد.. ومرض لا طبيب له ولا عائد…. ساهياً في غمرتك.. عَمِهاً في سكرتك.. سابحاً في لجة جهلك… مستوحشاً من ربك.. مستأنساً بخلقه ، ذكر الناس فاكهتك وقوتك.. وذكر الله حبسك وموتك..6.

كم جاءك الثواب يسعى إليك فوقف بالباب! فرده بوَّاب: سوف ولعل وعسى..

فيا هذا الغفلة  الغفلة، فتفوتك الفرص … والنجاة النجاة ، فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل

 

                            وفي الأحباب مختص بوجد               وآخر يدعي معه اشتراكا  

                            إذا اشتبهت دموع في خدود           تبين من بكى   ممن تباكى


 


1– المحلل: هو أن يتزوج المطلقة ثلاثاً، ثم يطلقها لتحل للزوج الأول باتفاق بينهما، وهذا حرم لا يجوز.. والمقصود في مقام الوعظ هنا، أن علياً رضي الله عنه طلق الدنيا ثلاثاً ولا يمكن أن يعود إليها كما يفعل المحلل والمحلل له.

2– حديث صحيح رواه أبو داوود وابن ماجة، والترمذي وغيرهم.

3– رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

4– رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

5– حديث صحيح رواه أبو داوود والترمذي وغيرهما.

6– كل ما سبق من كلام ابن القيم من كتابه (الفوائد) بتصرف وزيادات قليلة ومداخلات.